أبو يعرب المرزوقي
كلما سمعت ما يقدم على أنه ذكاء اعتبره فهلوة أو استراتيجية الرماية في عماية أو بلغة شعبية “في المهموكة”. فعندما تصبح النهضة تبحث عن زواج من “مجهول” بلا هوية ملائمة لمرجعيتها ودون عقد أتساءل عن طبيعة هذه العملية هل هي “مبادرة الجبن” أو “مخاتلة الزور” أم تذاكي يهمل أن الحيلة في ترك الحيلة أم ماذا؟ فمن يبحث عن مرشح محتمل دون تحديد مواصفاته ومن دون أي بنود تعاقد حول برنامج جامع يقترح على الشعب يكون منفعلا يتظاهر بأنه فاعل.
وكان يمكن أن اصمت لو لم يكن ذلك مواصلا لنفس الاستراتيجية التي جعلت الإسلاميين يضعون أنفسهم في موضع ممسحة احذية ممن هم أكثر منهم دهاء في عتبة الأبواب المستقبلية. فإني أتوقع أن تكون حملة الانتخابات المقبلة مستندة إلى مسح كل ما حل بالبلاد خلال حكم السبسي ومشتقات تفرقع حزبه في من يدعي الفعل في الأحداث ليخفي انفعاله بها.
فيكفي أن يقدم خصوم الإسلاميين بمنطق جعلهم ممسحة أحذية ورقة واحدة تتعلق بتدني أجور الموظفين وتردي موقع الطبقة الوسطى فإنه سيقضي على ما بقي لهم من رصيد رمزي وخلقي وخاصة بعد الزعم بالفصل وفتور الشباب عن الإيمان بأي رسالة بعد أن فقد الأمل الذي مثل جذوة حماسته في بداية الثورة.
فمثلا الأستاذ الجامعي ومن يناظره في سلم الأجور كان أجره في غاية وظيفته حوالي ألفي دولار صار أجره اليوم أقل من ألف بل هو لا يتجاوز 800 دولار. وهذا يعني أنه بات فاقدا لصفة الباحث لأن من يعاني من وضع مترد ليس له القدرة حتى على اقتناء ما يحتاج إليه من توثيق علمي لبحوثه إذ هو حتما سيقدم ضرورات الحياة على كماليات العلم.
وعندما يعلم الإسلامي أنه لم يبق من الإسلام في الأحزاب الأسلامية إلا العبادات والجيل الذي يكاد ينقرض والبقية لا علاقة لها به لأنها في المجالين المتعلقين بالسياسي من حيث هو سياسي رؤاهم تدنت إلى ما لم تصل إليه حتى الرأسمالية المتوحشة أي سياسة البنك الدولي وترضية فرنسا وإسرائل مقابل مشاركة في الحكم آثارها مدمرة لمستقبل الإسلام السياسي.
وكل حزب يستمد قاعدته منه ينقرض بمجرد أن يدعي أنه تخلص من صلته به إذ هو يفقد هويته دون بديل. فلا شيء يدعو من كانوا منتسبين إليه لإيمان بأنه يمثل رؤية لا تكتفي بالهوية الدينية بل تتجاوزها إلى ما يترتب عليها في سياسة شروط الحياتين الدنيا واٍلآخرة مع اعتبار النجاح في الأولى شرطا للسمو إلى الثانية لا شيء يدعوهم لمواصلة الاهتمام بمناوراته قصيرة النظر وعقيمة الفائدة.
فإذا كان العامل الاقتصادي والعامل الثقافي أي التموين الذي هو سر كل قوة سياسية خارج الاهتمام المميز لما يستنتج من المرجعية الإسلامية وكان الدور السياسي مجرد الحصول على سترابونتان في حكومات لا يتجاوز دورها الغطاء على المافيات التي هي الحاكم الفعلي فلست أفهم من أين يأتي الوهم بأن الدور مؤثر والظن أن النهضة صانعة ملوك وتبحث عن عصفور نادر؟ فلا يوجد في تونس ملوك أصلا بل كل من يتوهم أنه حاكم هو مجرد غطاء لعمل مافيات تمول حضورة الشكلي مثل نزيل قرطاج الحالي كما يبين من اختير بطانة له. فمن تخادع قيادات النهضة غير نفسها إذ تؤيد دعوى أعدائها بأنها “الفاتقة الناطقة” ومن ثم فهي تتحمل مسؤولية تردي الوضع الحاصل منذ الثورة.
كلام المحافظة على الاستقرار وعلى الحريات إلخ… مجرد كلام. فلا يوجد استقرار بل اضطراب في الحكومات التي تعاقبت وخاصة في هذه التي يزعم لها الاستقرار إذا ما استثنينا الخضوع المطلق لخطة البنك الدولي. فالحقيقة هي أن عتاة النظام السابق عادوا مع تعدد المافيات التي تعددت بعد فقدان سلطان المافية الكبرى التي كانت تشرف على تقاسمها استنزاف ثروات البلاد وقوت العباد وذلك في كل المجالات. لم يبق من الثورة إلا الكلام عليها والعمل بعكس قيمها.
وإذا كان التنازل في البداية يمكن أن يكون مقبولا لأنه كان لصالح القسماء في المصير فإن ما يحدث الأن صار ارتهانا لأجندات أجنبية ورهنا لمستقبل البلاد واستعبادا للأجيال المقبلة لأن عدم المنجزات سيجعل السداد في الميعاد من رابع المستحيلات.
من يحكم في تونس اليوم لم يعد قسيم تونسي للإسلاميين بل صار بتوافق ضمني حزبان خفيان مع رديفين لهما: 1.حزب فرنسا 2.وحزب إسرائيل. ورديفان يعمـلان بصمت هو جناحا الثورة المضادة 3.العربية 4.والإيرانية. وهؤلاء هم صناع الملوك بحق وليس الباحثين عن العصفور النادر مهما توهموا أنهم صناع ملوك لا وجود لهم في تونس لأن الجميع صاروا عبيد المافيات. كل ذلك من محاولات التغطية على فشل الطبقة السياسية بكل ألوانها وحساسياتها : فصار كل “زُعيم” يدعي أنه أولى من غيره ليكون رئيسا في بلد ليس لها أدنى سلطان على مسارها ومصيرها. إنه الفشل الحقيقي الذي لم يعد بالوسع اخفاؤه أو السكوت عنه.
لم يعد بوسع أحد أن ينفي أن تونس صارت أكثر تطبيعا مع إسرائيل وعملائها ممن يدعون إليه حتى في الثورة المضادة العربية. فالنخب التونسية وخاصة الأقلية اليهودية والباحثين عن الاستناد إليها في أخذ حصتهم من “الحكم” الوهمي لا تخفي ككل مثيلاتها في العالم أن ولاءها لإسرائيل وليس للأوطان التي يدعون الانتساب إليها. والحجة حماية السياحة وضمان الحصول على القروض للبقاء في تهديم كل شيء.
وأي معنى يمكن أن يكون لسياسة عرض التحالفات مع من هم من أصحاب هذه الخيارات إذا لم يكن هروبا إلى الأمام في مواصلة سياسة النظام القديم بدلا من سياسة تونسية مستقلة تسهم في محاولات الجزائر وليبيا التخلص من التدخلات الفرنسية والإسرائيلية واختيار سياسة تحقق أهداف الثورة على من يؤمن بهذه المبادي فالكلام على العصفور تضخم ذاتي يريد أن يجعل الانفعال فعلا وهو توافق مغشوش.
وفضلا عن هذه الدلالة ففي العالم كله كل حكم مشترك بين الأحزاب تسبقه مفاوضات حول بنود التعاقد بينهما وتقاسم السطلة التنفيذية بالتناسب مع ما يحصلون عليه من نسب في انتخابات السلطة التنفيذية. أما عرض الذات للبيع بتأييد زيد أو عمرو في الترشج للرئاسة دون برنامج يعرض على الشعب بمنطق هذه السياسة ودون تعاقد علني مسبق مع الشريك فدليل انفعال لا فعل.
والأفضل أن تسمى الأشياء بأسمائها بدل توهم مخادعة الناخبين في حين أن الفاعل لا يخدع إلا نفسه لأنه يمكن خصومة من مسح أحذيتهم فيه إذ يعتبرون ما يعبر عنه حاليا شهادة منه على مسؤوليته عما حدث منذ الثورة إلى الآن وكأنه هو الفاتق الناطق في حين أنه ليس له من الأمر شيء.
والثابت أن كل الأحزاب التي تمثل النظام القديم وعملاءه من اليسار والقوميين ومن يدعون الديموقراطية متحالفون ضمنا من أجل اخراج النهضة من الحكم مهما فعلت ومهما تنازلت ومهما أيدت هذا المرشح أو ذلك. ففي السياسة الوعود لا يفي بها من لم يعد بحاجة لمن وعده. ومن علامات الفشل الذريع هو أن الإسلام السياسي منذ الثورة إلى الآن لم يستطع تحقيق حلف ذي دلالة استراتيجية مبني على مشتركات في الرؤية الاقتصادية وا لثقافية والاجتماعية مع أي فرع من فروع القوى السياسية. وذلك لأن قادته تتصور قاعدتها ثابتة وأنها قوة غنية عن الأحلاف.
والمعلوم أنه في السياسة كما في الاقتصاد أو في الثقافة من لا يكبر يصغر ومن لا ينمو يضمر ومن لا يتسع يضيق ومن لا يتجدد يفنى. والخطاب التبريري ليس خطابا سياسيا لأنه انهزامي. ومن لا يلاحظ الفرق بين الانتخابات الأولى ثم الثانية ثم الثالثة لن يكون حاله أفضل في الرابعة والخامسة القادمتين في نهاية السنة الحالية. ولا يحق لحزب أن يدعي ما ليس عنده كأن يزعم أنه أحرص على الوطن من غيره. فالحرص عليه هو القدرة على خدمته. وفي الديموقراطية لا قدرة من دون قاعدة مريحة صاعدة لا متآكلة.
أعتقد أن الحيلة في ترك الحيلة. وأن لحظة النقد الذاتي ينبغي أن تسبق الهزيمة قبل حصولها لعل ذلك يحد منها ويجنب انفراط العقد. فلا يمكن أن يكون من اختار نظاما برلمانيا -رغم أن المنطق يقتضي تجنبه في بلد ليس له تقاليد ديموقراطية- جاهلا أنه يعسر في هذه الحالة أن يحكم من دون شركاء لهم خيارات متكاملة. فإذا كان عاجزا عن تحقيق شراكات متينة فإنه قد حكم على نفسه ألا يغادر المعارضة أو المشاركة الرمزية.
فعندما يصل الوضع الاقتصادي والثقافي إلى ما وصل إليه في تونس وهو ذاهب إلى المزيد من التردي بسبب فقدان الاستثمار والاستدانة الاستهلاكية ومن أجل الأجور فإن الاعتماد على العاطفة الدينية والرصيد الرمزي السابق لن يكون كافيا للمحافظة على الوزن السياسي إذ من شروطه أن يكون برنامج الحزب ممثلا لما يعاني منه الناس وليس من مجرد ادعاء الحرص على الثورة بالتبعية لأعدائها المبدئيين.
فما أتوقعه من الـمحاور التي اراها تتقارب وتجمع على هدف واحد هو استثناء النهضة من المشاركة في الحكم محوران أساسيان لخطابها الانتخابي:
1. مسح من حكموا فعلا كل ما حدث في العقدين (تقريبا) في النهضة باعتبارها هي الثابت في هذه المدة في الحكم هذا رغم أن حضورها لم يكن إلا رمزيا.
2. ومن لم يحكموا المزايدة عليها في الاجتماعيات والوطنيات ليسر اتهامها بما اضطرت للمشاركة فيه من حكموا إذ كانت تابعة لهم ولمتبوعهم أي فرنسا وإسرائيل خاصة.
فإذا أضفنا كل الأكاذيب التي تلصق بقياداتها وبرموزها وسيطرة الإعلام التابع لخصومها من الصفين ولمسانديهم الخارجيين فإن المعركة لن تكون متكافئة بحيث إن هذا التشبث بدعوى الفعل المخفي للانفعال هو تضخم في الكلام على سياسة منهارة مثل تضخم عملة اقتصاد أكثر انهيارا منها وشبه عدم مطلق في الثقافة. هذا رأيي أقوله واعتبره جرس التنبيه للخطر الداهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.