بحثا عن “العصفور النادر”
عادل بن عبد الله
عند ظهوره في برنامج باريس تونس على قناة “فرانس 24” الناطقة بالعربية، تحدث زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي؛ عن العصفور النادر الذي ستبحث عنه حركته لتدعمه في الانتخابات الرئاسية القادمة. وهو تصريح أثار العديد من التعليقات التي غلب عليها الطابع الهزلي (خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي)، ولكننا نجد بعض التحليلات الجادة التي حاولت فهم عبارة “العصفور النادر” ووضعها في سياق الخيارات السياسية الكبرى للنهضة؛ في علاقتها بالواقع المحلي الذي لا يقبل المقاربة من غير استحضار التأثيرات الإقليمية والدولية.
لقد أكّد زعيم حركة النهضة، في لقائه مع الصحفي توفيق مجيّد، فكرتين أساسيتين:
1. إن النهضة لن تقاطع الانتخابات ولن تقف على الحياد، وهو ما يعني أن النهضة “الرسمية” (لا نهضة القواعد) ستتجاوز موقفها الملتبس في انتخابات 2014 الرئاسية. ففي تلك الانتخابات، لم تدعم الحركة بشكل رسمي السيد منصف المرزوقي، ولكنها لم تعارض الدعم الذي لقيه من مناصريها، بل من هياكلها الرسمية جهويا ومحليا.
2. إن النهضة قد تقدّم مرشحها الخاص للانتخابات الرئاسية، ولكنها تميل إلى مرشح “توافقي”ّ. وقد جاء حديث الشيخ راشد عن “العصفور النادر” في سياق التعبير عن ميل حركته للمرشح “التوافقي”، وهو ما يعني أن “العصفور النادر” سيكون “توافقيا” بالضرورة. ولا شك في أن استدعاء الشيخ راشد لمصطلح “التوافق” هو أمر مقصود، فهو رسالة إلى الداخل والخارج بأن النهضة مستمرة في منطق التوافق، ولكنها مضطرة إلى تغيير شريكها الذي راهنت عليه في مرحلة سابقة (أي السيد الباجي قائد السبسي الرئيس الحالي للجمهورية التونسية).
بعيدا عن التعاطي الهزلي مع “العصفور النادر” الذي ستدعمه النهضة في الرئاسيات القادمة، قد يكون من الأنسب مقاربة هذا التعبير بما هو أكبر من مجرد تعبير مجازي، أي بما هو كشف عن منطق سياسي كامل. فاختيار الشيخ راشد للعصفور (دون سائر أنواع الطيور) يدل على فهم معين لدور الرئيس القادم، ولطبيعة علاقاته بباقي الشركاء، خاصة حركة النهضة. إن “المجاز النهضوي” الذي جرى على لسان الشيخ راشد يعكس رغبة في الخروج من ثنائية الصقور والحمائم التي تطبع علاقة القوى العلمانية بالنهضة، التي يغلب عليها خطاب “الصقور”، أي أولئك الذين لم يطبّعوا بعدُ مع حركة النهضة، والذين ما زالوا يصرون على إدارة العلاقة معها بمفردات الصراع الوجودي ومنطق الاستئصال. ولذلك، فإن “العصفور التوافقي النادر” سيكون بالضرورة هو ذلك العصفور الذي سيكسر ثنائية الصقور/ الحمائم، وسيكون لحظة تجاوز جدلي لخطابيهما على حد سواء.
لقد جاء التصريح الأخير للشيخ راشد ليؤكد استمرار الحركة في خيارها الاستراتيجي المتمثل في الدخول إلى منظومة الحكم، والقطع النهائي مع منطق الضدية والصدامية مع مكوّناتها التقليدية (أي مكوّناتها الجهوية والأيديولوجية)، وهو خيار ستكون له تأثيرات كبيرة في تحديد مواصفات “العصفور النادر”؛ فمن المستبعد مثلا أن تدعم النهضة شخصيات معارضة لا تخفي عداءها لمكوّنات منظومة الحكم (مثل السيد منصف المرزوقي أو السيد قيس سعيد)، ومن المستبعد أيضا أن تدعم الحركة ترشح زعيم التيار الديمقراطي السيد محمد عبّو، بل من المستبعد أن تدعم القيادي السابق في الحركة السيد حمادي الجبالي، فكل هذه الشخصيات لا تتقاطع مع الخيار النهضوي القاضي بالتطبيع مع الدولة، بل مع منظومة الحكم. وهو ما يعني استحالة أن تخاطر النهضة بذلك الخيار الاستراتيجي لدعم شخصية معارضة، مهما كانت شعبيتها بين قواعد الحركة.
وبناء على ما تقدم، يمكننا أن نقول، إن “العصفور النادر” (وهو بالضرورة عصفور توافقي مطبّع مع الخيارات الكبرى للمنظومة الحاكمة)، سيكون بالضرورة إما نهضويا مقبولا من المنظومة ومن دوائر القرار الإقليمية والدولية ومن القواعد النهضوية، وإما أن يكون شخصية منتمية إلى المنظومة القديمة ومدعومة إقليميا ودوليا، ولكنها شخصية قابلة للتسويق بين قواعد النهضة. ولا يكفي أن تكون هذه الشخصية منتمية للنواة الجهوية الصلبة لمنظومة الحكم (من منطق الساحل أو من بلدية العاصمة)، بل ينبغي أن تكون مقبولة بين قواعد النهضة بحكم عدم ولوغها في دماء النهضويين زمن المخلوع ابن علي، وعدم استهداف حركتهم بمنطق استئصالي بعد الثورة.
ويبدو من الصعب أيضا أن تدفع النهضة بمرشح من داخلها؛ مرشّح يكون قادرا على تحقيق “توافق” حزبي ووطني وإقليمي ودولي، في ظل واقع إقليمي ودولي ما زال متوجسا خيفة، بل معاديا لحركات الإسلام السياسي. ولذلك من المرجح أن يكون “العصفور النادر” من خارج الحركة، ولكن لن يكون من أعدائها الأيديولوجيين. ولن يكون موقف النهضة بعدم الحياد في هذه الانتخابات مجرد رسالة للأطراف الفاعلة وطنيا وإقليميا ودوليا، بل هو أيضا ضرورة سياسية ملحّة. فإذا كان الجسم الانتخابي للحركة قد توحّد في انتخابات 2014 خلف السيد منصف المرزوقي، (مع ما يعنيه ذلك من استمرارية اللحمة الحزبية وغياب الصراعات الداخلية)، فإن الانتخابات القادمة ستقسّم النهضويين على أكثر من مرشح، وستجعلهم يأخذون مسافات “خطرة” ومتفاوتة من حركتهم. ولذلك، فإن من مصلحة حركة النهضة أن تحسم أمرها فيما يخص المرشح الرئاسي، ولكنه حسمُ من يمشي على الحبل في يوم عاصف.
فلو افترضنا جدلا أن النهضة ستراعي في اختيار “العصفور النادر”؛ توجهات قواعدها الرافضة للاصطفاف خلف أية شخصية من منظومة الحكم السابقة، فإنها ستظهر في صورة المتخلي عن خيارها الاستراتيجي القاضي بالتطبيع مع تلك المنظومة والقبول بالاشتغال التوافقي معها. ولا شك في أن رسالة كهذه لن تكون رسالة إيجابية عند المكوّنات التقليدية لمنظومة الحكم في تونس، ولا عند من يدعمهم إقليميا ودوليا، ولكننا إن افترضنا أن النهضة ستدعم مرشحا من منظومة الحكم (بل من نواتها الجهوية الصلبة ذاتها)، فإننا سنكون أمام خيار قد لا يلاقي تجاوبا من أغلب القواعد النهضوية؛ التي هي (على عكس ما يروجه الخطاب الاستئصالي) أبعد ما يكون عن التضامن العضوي أو القطيعي مع قياداتها. ولا شك في أن عجز قيادات النهضة عن توحيد قواعدهم خلف مرشح واحد سيعني تراخي سلطتهم الاعتبارية أو حتى التنظيمية، بل قد يعني استحالة تجميعهم بعد الاستحقاق الانتخابي، وهو أمر لا يمكن أن يقبل به الشيخ راشد ولا أي قيادي نهضوي.
ختاما، فإننا نعتقد أن “العصفور النادر” هو في الحقيقة تعبير عن لحظة “توافقية” ثانية. وهي لحظة توافقية تطمع النهضة فيها أن تساهم في “صناعة الرئيس” (بعد أن أقصيت من هذه العملية في انتخابات 2014، تلك الانتخابات التي وصل فيها السيد الباجي قائد السبسي للرئاسة ضد رغبة النهضة، أو على الأقل ضد رغبة الغالبية العظمى من قواعد الحركة). كما إننا نعتقد أن نجاح النهضة في تحقيق التوازنات المطلوبة لإيصال “العصفور التوافقي النادر” إلى قصر قرطاج؛ ستكون له تداعيات كبرى على الحقل السياسي التونسي في العقد القادم أو ربما فيما يليه. فإذا كانت المنظومة القديمة قد استطاعت في الانتخابات السابقة أن تدفع بمرشحها إلى سدة الرئاسة ضد رغبة النهضة، فإن الواقع السياسي الآن يقول إنها قد تعجز عن ذلك دون التوافق مع الحركة.
ولكن التوافق مع النهضة لا يعني تراجع المنظومة عن خياراتها الفاشلة والمأزومة في مختلف القطاعات، بل كل ما يعنيه هو أنها قد نجحت في كسب حليف جديد ينضاف إلى القوى اللائكية الفرنكفونية بأذرعها النقابية والسياسية والمدنية. ولا شك في أن هذا الواقع السياسي الجديد سيقوّي منظومة الحكم وسيضعف البدائل المعارضة، خاصة مع إصرار القوى المعارضة على التشرذم، وعلى تغليب منطق الزعاماتية المعرقل لأي مشروع توحيدي حقيقي، وإصرارها أيضا على نسف جسور التواصل مع حركة النهضة؛ وإقناعها بإمكانية بناء توافق وطني خارج مدارات المنظومة القديمة وورثتها في ما يسمى بـ”العائلة الديمقراطية”.
عربي21