ابتلّت العروق !
توفيق قريرة
يطلّ ابني من الشرفة على الصومعة ينتظر أذان المغرب.. تجلس زوجتي وقد أنهكها الصيام وطهي اللذيذ من الطعام .. تجلس وتخشى أن يبرد الخوان. أجلس في صدر الخوان كرئيس لعائلة تريدها الحكومة قليلة الأنفار نظامية كراسيها لا تتعدّى مساحة دائرة المائدة.. الجهاز المسمى تلفزيونا يعرض صورا مصاحبة للأذان للعاصمة وما جاورها، هم يفطرون هناك قبلنا ونحن نصوم بعدهم قسمة إلهية عادلة.. يدخل ولدي سريعا يخبرنا بأنّ مؤذّن القرية أذّن.. نشرع في تناول الطعام تمتم زوجتي بدعاء ويغمض ولدي عينيه، كمن يستمتع باليوغا قبل الطعام وفي التلفزيون حديث نبويّ شريف (ذهب الظمأ وابتلّت العروق) يسألني ولدي: هل تبتلّ العروق؟ سكتّ وقالت أمّه التي كانت تستذكر له درس البلاغة: لا تأخذ كلّ الكلام على الحقيقة.. قال لها: هي استعارة يا أمّي إذن.. وقبل أن ينخرط في بقية الأسئلة مارست دور الرئيس، فسكت عن أسئلة لم تكن أمّه مدرّسة العربية في حاجة إليها.
هذه هي المرّة الألف التي أسمع فيها هذا الحديث الشريف ولم أتوقّف لأسأل.. اللغوي ينسى مهنته، إن كان يمارس طقوس الحياة لكن يكفي أن يسمع شيئا يرجعه إلى هواجسه اللغوية حتى يستطرد.. حتى في أشدّ أوقاته حاجة إلى الصمت والاستماع إلى الأضراس تطحن ما حرمت منه الأمعاء في يوم كبيس. شربت جرعة من الماء وأخرى وثالثة، وانتظرت أن أشعر بسريان الماء فشعرت به، لكنني كنت متأكّدا أنّ الموضع الذي أحسست أنّ الماء يجري فيه ليس العروق حمدت الله أنّ الدماء لم تصبح ماء وعدت إلى التفكير.
نشط ذهني بعد أن شربت القهوة.. لم أتحسس طريق القهوة مثلما تحسّست الماء، ربما لأنّني اعتقد أنّ القهوة تذهب إلى الرأس.. يقول العامّة عندنا حين يريدون شرابها إنّهم «يعمّرون رؤوسهم». تعمير الرأس بالقهوة هو عبارة تشعرك بأنّ رأسك فارغ من شيء ما وأنّه عليك أن تملأه بالقهوة.. من اليسير على لغويّ مثلي أن يقول إن «عمرت رأسي» التي تقال بعد شرب قهوة «تعدل الدماغ» إنها استعارة ومن اليسير عليه أيضا أن يقول إن «ابتلّت العروق» التي تقال عند شرب الصائم الماء أوّل الإفطار إنها استعارة لكن المسألة لا تبدو بهذه البساطة.
تضع زوجتي في صحني شيئا لا يسري في العروق، ألتهم الملعقة ويظلّ ذهني عالقا بابتلال العروق.. أتساءل إن كان إدراكنا لسريان الماء في جوفنا يقاس على سقي عروق الشجر بعد عطش، هل تجربتنا مع أفئدتنا تستعير تجربتنا مع النبت؟ هذا مفتاح عرفاني لا يعرفه خلق كثير ما يزال يؤمن أنّ الاستعارة في الألفاظ لا في الإدراك ولم يصله قول لايكوف وجنسن إنّ أذهاننا هي الاستعارية، وما الاستعارة في أقوالنا إلا أثر من استعاريّة الذهن.
نحن نبني تجربتنا مع الإفطار في سياق نظامي، أي في سياق تحيل فيه عناصر تجاربنا مع الصوم على عناصر تجاربنا مع النبت والسقي، لهذا يمكن أن نزاوج بين هذه العناصر لنرى إنّ كلّ واحد منها في تجربة النبات يسقط إدراكيا على مناظر له في تجربة الصيام وهي: النبت والإنسان، الجفاف والصوم، عروق النبت وعروق الإنسان وغيرها من العناصر المتناظرة، التي تجعل من هذه الاستعارة بنيوية. لكن توجد إحالات ثنائية بين عناصر غير واضحة أو ضمنية، وهي الافتقار والإشباع والنظر إلى الجسد على أنّه وعاء. إنّ الشعور الخارجي بابتلال عروق الشجر، يصبح حين ينتقل إلى الداخل إحساسا ذاتيا بتفاصيل جسدنا الغائبة عنّا.
تسقط من الملعقة قطرة من الحساء على يدي التي كانت تمسك بقطعة خبز فواحة، أمسح القطرة بيدي الثانية وأتظاهر بالانشغال عن عين زوجتي المنبهة والمعاتبة لي، على أنني وأنا في هذا السن لا أحسن التحكم في ما أرفعه إلى فمي.. أنظر إلى عروقي البارزة على صفحة يدي تبدو لي وكأنها أودية تحت الجلد، لكنني أستطيع أن أتابعها إلى أن تغيب. تمتلئ هذه الأوعية بدمي لست أدري لمَ صار يتهيّأ لي أنّها أودية تحمل مَاء يروي ما يمرّ عليه. يخطر ببالي أن أركز على حـــركة جريان الدم في عروقي فلا أفلح.. هل نبالغ حين نغضب ونقول: «غلت الدماء في عروقي» أو أشعر بفورة دمائي؟ هل نكون في تلك اللحظة على مشارف بركان يغلي في عروقنا؟ جميل أن تطلّ على حمم دمائك وكأنك تطل على حمم بركان.. ستصيبك حممها كما تصيبك حممه.
ليست مسألة معقّدة أنّ المرء يعجز حسّه عن أن يدرك تفاصيل حركات جسده، بينما يفيض إحساسه بمناطق معينة من الجسد.. أنا لا أحسّ بإصبعي إلاّ إذا بذلت جهدا كبيرا في ذلك، لكنني أراه وأشعر به حين يحترق أو حين يعضّ ندما.. ولو أنّ شخصا ما أدخل في عرق من عروقي شيئا كالإبرة لشعرت بمغرسها فيه.. شعورنا بالألم هو في بعد من أبعاده شعور بأنّ الألم يقع في وعاء حتى يتسنّى تحديده.
بناء على ذلك فأن أكون عطشا متشوقا إلى الماء، من الممكن أن تعود صورة الوعاء إلى جسدي لأتخيلن قد أفرغت منه؛ وسأشعر وأنا أشرب عند الإفطار بحركة الماء تسري في منطقة ما ربما خلتها شراييني، أشعر وكأنّ الماء يسري في عروقي. هل أكون وأنا أتصوّر هذا قد استعرت من تجربتي مع النبات ما به أفهم حسّي؟ أم لأنني أشعر أنّ جسدي وعاء؟ هذا السؤال يعني الكثير في تصنيف الاستعارات في نظرية لايكوف وجنسن أهي استعارة بنيوية أم استعارة أنطولوجيّة؟
إنّ تجربتنا مع أجسادنا تجعلنا ندركها على أنّها أوعية فنحن نمتلئ ونفرغ لنعيد الامتلاء من جديد، هذا الضرب من الاستعارات جاءنا من تجربتنا مع الأوعية التي نملؤها أو نفرغ منها. العروق التي عندنا ليست أوعية بالمعنى الذي نحمله عن الوعاء، ربما كانت أوعية كما تكون مجاري الماء أوعية لها، لكننا لا نرى سيلان ما يسيل منها إلا عند الجرح، ولا نشعر بحرارة ما يجري فيها إلاّ عندما تتدفق الدماء خارج الوعاء. من يشعر بالدماء وكأنّها تتجمّد في عروقه يرى الدماء كالماء يمكن أن تتجمّد ومن يرى الدماء ماء يمكن أن يشعر بأنّ الماء قد عادت إلى مجاريها بعد العطش.
أحمل كأس الشاي وأجلس على الأريكة محاولا نسيان مسارات الأكل والطعام، وأحمد الله على أنّنا لا نفكّر في مسارات الأكل والطعام في كل أكل وفي كل شراب. لا شكّ في أنّ الوعي بهذا الأمر مزعج غير أنّ للعطش إنشائيّة لا يعلمها إلاّ من اعتقد أنّ العطش نابع من نشف العروق قلت لابني هل تعرف كارين تويل؟ أشار برأسه المنغمس في هاتفه أن لا.. أضفت هي التي تقول: ما قيمة العروق إن لم توجد أرض تسامحنا؟ تعال أسامحك لأنني لم أجبك عن سؤال الاستعارة منذ حين.. قفز إليّ يعانقني وعيناه على لعبته يخشى أن يخسر.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية