فتحي الشوك
كان لا يمرّ يوم إلاّ ويهاتفني لمرّة أو اثنتين منذ أن علم بإصابته بمرض عضال، مستفسرا عن صداع، مغص في الأمعاء، سعال، أو أيّ عارض طارئ، بعد أن استوطن جسده هذا المخرّب المفسد الغريب، ومن حين لآخر كان لا يفوّت فرصة لزيارتي طلبا للنّصيحة أو لعلاج وربّما لأمان يفتقده، وغالبا ما يجالسني حتّى يضطرّ للمغادرة بعد ضجر أحد المرضى من ملّ الانتظار.
استوطنه المرض الخبيث، استعمره الدّمار، ثبت ذلك وابتدأ في حصص عذاب العلاج الكيمياوي، ازداد به الوجع حتّى استعصى على المسكّنات العادية وصار يتطلّب المورفين بجرعات عالية.
قلّت مكالماته في المدّة الأخيرة لتنقطع حتّى خلت أنّ أمرا جللا قد حدث خصوصا بعد أن صار لا يردّ على الهاتف، سألت عنه بعض من يعرفه فأفدت بأنّه اعتزل النّاس ولزم بيته الواقع في مدينة مجاورة لمدينتي الّتي أقطن.
منذ يومين قرّرت أن أزوره وكأنّني استبق زيارة من سيجعل اللّقاء مستحيلا، وقفت على حافة رصيف شارع الزّعيم انتظر “تاكسي” ليلتقفني كهل تصحّر رأسه وطال لسانه، لا يكفّ عن الطقطقة كقدر ملأى بالحلزون، لم يكفّ لحظة عن الثرثرة وهو يسبّ ويلعن “المقمّلين” الّذين يتطاولون على الزّعيم، “فضلات” ثروة “البرويطة” من خونة وناكري الفضل والجميل، كان يوغل في الشتم وكأنّه يستثيرني منتظرا منّي تفاعلا فلم ير منّي سوى برودة وتجاهلا، تجاهلا كان مقصودا بعد قراري بأن أتفادى أيّ صدام أو جدال خصوصا مع مرور ساعات النّهار المتزامن مع اطلاق صفارات الإنذار في رأسي نتيجة انقطاع النّيكوتين والكافّيين!
أوصلني إلى المحطّة حيث امتطيت سيّارة أجرة في اتّجاه مقصدي ليتواصل عزف نفس الاسطوانة مع بعض الاضافات حول امكانية عودة المخلوع الّذي خلع زعيمهم وأذلّه أمام أعين من يتباكون اليوم فاكتفوا حينها بالفرجة أو التصفيق.
وأخيرا لفظتني السيارة وقد تملّكني احساس بأنّي تحوّلت إلى قطعة علكة لاكتها افواه نتنة لترميها في شوارعنا المتّسخة.
وجدت نفسي في شارع نفس الزّعيم، وهو لا يختلف كثيرا عن نفس الشارع في مدينتي، فشوارع الزّعماء دوما تخلّد تلك الأسماء بيافطة معلّقة أو تمثال أو كتب تاريخ ومناهج دراسة، كلّها محاولات لتثبيت الزّمن وحصره في ثقب اللّحظات السّوداء ليحنّط الوقت تماما كالمومياء، شوارع ولدت ميّتة كمشاريعهم الجوفاء.
يبدو أنّ صديقي كان لطيفا ومحبوبا، قرأت ذلك في صفحات وجوه من سألتهم عنه ليدلّوني على عنوانه، كان باب بيته نصف مفتوح، طرقته ليجيبني صوت خافت بالكاد يسمع طالبا منّي الدّخول لأجد مصدره ممدّدا على الفراش وقد افترسه المرض وحوّله إلى كتلة من العظام المكسوّة بالجلد، دبّ فيه بعض النّشاط عندما تبيّنني ليقوم ويحتضنني وقد اغرورقت عيناه بالدّموع وهو يهمس في اذني: “لقد انتهيت، لم يترك في “ابن الحرام” ايّة خليّة سليمة”، أجبته: “ليس بعد، سنواصل العلاج، سنهزمه ابن الكلب”.
ابتسم وهو يشير بسبّابة مرتعشة إلى مقدّمة رأسه وكأنّه يؤكّد لي بأنّه ما يزال يعقل ولن يصدّقني.
كانت لحظات بمذاق قهوة مرّة اشتاق لأن أترشّفها وبتأثير أوّل نفس سيجارة صفاء بعد يوم صيام، السيجارة التي تقتلنا بصمت فننجذب إليها كما الفراشة إلى النّار.
كانت لحظات صفاء قطعها صوت زائر، كان كثّ اللحية، ملامحه ليست بالغريبة على عيني بعد بعض التدقيق، هو مسرحي من سنوات الثمانينات وقد جمعتني به جلسات في المقاهي وبعض أيّام التّيه في الحانات. ألقى علينا التّحية وأردفها وكأنّه يمدح عملي: “يرحم الزّعيم الّذي علّمك، العظيم الّذي تنكّر له الأقزام”، استفزّتني كلماته بعد ما نفذ مخزون صبري لكثرة ما تعرّضت له من قصف طيلة النّهار وقد أضناني شوقي إلى عشقي الممنوع، لانفلت ويحصل الانفجار: “يرحم والدي من جاهد لاجلنا واشتغل ليلا نهارا لكي ندرس، رحم الله مدرسينا من علمونا الحروف، أمّا زعيمك فله ما له وعليه ما عليه، أخطأ وأصاب، واجتهد ولم يكن لوحده، علينا تنسيب احكامنا، تأليهه لا يجلب سوى شيطنته”.
نظر إليّ بحدّة وهو يقضم شفته السفلى وكأنّه يتذكّر أحد أدواره الّتي تقمّصها ليقول: “عار عليكم ان تحاكموا انسانا ميّتا”.
دست على فرامل غضبي وهششت بعض الدّجاج الأسود الّذي بات يتراءى في سمائي وأجبت بعد نفس عميق: “هي عدالة يبحث عنها ابن مكلوم وعائلة مغدورة وآلاف ممٌن أصابتهم شرارات الحيف، هي الحقيقة الّتي يسعى إليها مريدوها بعد أن اختطفها واغتصبها قراصنة الظّلام، هو التّاريخ الّذي نريد اعادة قراءته بعد اكتشافنا كمّ التّحريف والكذب والتزييف، ماذا لو كان ما أصاب المظلوم قد أصابك أيّها الفنّان المستنير يا من تتغنّى بالعدالة وترقص على نغمات القيم الانسانية الكونية السّامية؟ ويحكم كيف تحكمون، تقتلونه حينما تريدون وتحيونه حينما تريدون وتستحضرون منه كلّ ظلمة وتولّدون أخطاءه وكأنّكم تستدرّون له لعنة اللّاعنين، اتركوا عظام الرّجل تستريح في قصرها المذهّب الّذي يكفي لسدّ رمق آلاف الجوعى واكساء آخرين من المستضعفين”.
انتصب واقفا، تقدّم خطوة ضاربا بقدمه اليمنى الأرض وفتح ذراعيه راسما بيديه في الفضاء علامة استفهام، كان يتمتم وشفتاه تتحرّكان دون أن يصدر منهما مفهوم كلام، خلته تقمّص دورا تمثيليا صامتا وكانّي أرى كلماته تنطلق كتلك الرّصاصات الّتي انطلقت من مسدّس غدرهم الكاتم للصّوت لتستقرّ في صدر الشّهيد بن يوسف.
كانت نظراته تصيبني كشعاع اللّيزر وهي محمّلة بكلّ معاني الاستنكار، ومن حين لآخر كان يضمّ يديه إلى صدره وكأنّه يمارس طقوس استغفار واعتذار لما صدر منّي من كفر صريح ومسّ بذات الكبار.
كانت عينا صديقي المتعبتان تتابعان ما يجري وتستعطفاننا أن ننهي هذا الجدل لننتبه لما وقعنا فيه من محظور في حضرة من لا يستحمل صداما أو شجارا.
انسحبت على عجل وقد تضاعف أساي وبلغ أسفي مداه لما حصل لصديقي ولما أصابنا جميعا من ورم خبيث انتشرت تفريخاته لتثخنا جراحا، فرقة ودمارا.