في وعي القطعان، أو تونس هبة الزعيم..
علي المسعودي
كان أبي، رحمه الله، يحتكر لنفسه كل السلطات في عائلتنا الوفيرة العدد. وليس الأمر بدعة، فهذا شأن كل الآباء في “دوّارنا” الصغير، وكان يجد متعة عظيمة في السخرية من ضحالة تفكير أمي رغم أنها كانت كذلك فعلا..
ذهبت إلى المدرسة فوجدت معلما يرسم أدق تفاصيل هذا العالم الجديد، ووجدت نبيا مرسلا وقائدا عسكريا يسمح لنا فقط بالشهيق والزفير في غير إسراف.
انضممت إلى المدرسة الداخلية الثانوية فإذا قيم المبيت يستعرضنا كل ليلة للتفتيش كجنود أمام جنرال عتيد. ضاقت مراهقتي ذرعا بكل هذا العسف، ولم أشأ استبدال سجن بآخر فتركت ثكنته دون أسف.
كانت كلها عوالم قاسية وجافة، هرمية الشكل، عسكرية الأسلوب.. ولا مكان فيها للمعاملات الأفقية أو العواطف.
وفي الأثناء دخل التلفزيون بيتنا، فإذا هو إطار لا يحتوي داخله سوى صورة الزعيم الملهم الواحد الأحد، وإذا البرامج كلها صلوات وتراتيل ودعاء، يرددها العامي والمثقف أمام آلهة الأرض لا السماء !..
هكذا مرت العقود الثلاثة الأولى من حياتي: مشاهد رتيبة تحاكي فعل الموت، وموسيقى جنائزية ترافق أكذوبة الحياة، من تأليف وتوزيع المجاهد الأكبر، تُكتَب نوتاتها على كل الأشياء حتى الحجر !.
احتميت من هذه الصور المدمرة للعقل بالانغماس في مطالعة تاريخ السياسة عند العرب، فإذا هو صحاري قاحلة، لا تهيج عواصفها إلا بأمر الإله “ست” ** ولا تموت الناس فيها أو تحيا إلا بأمر الزعيم الواحد المقتدر !..
ومختصر الكلام، أنه إذا حدثتك نفسك الأمارة بالسوء بزيارة وطن من هذه الأوطان، عليك أن تتذكر دائما أنك اقتحمت ملكية خاصة لبعض النبلاء، انتقلَت إليه بقوة التحوّز أو قوة الاصطفاء !..
هكذا هي المملكة الشريفية للحسن الثاني، والجمهورية الاشتراكية لبومدين، أو بورقيبة المجاهد الأكبر، أو جماهيرية ملك الملوك.. هذه هي مصر جمال عبد الناصر، وشام بشار ومن قبله حافظ.. أما الخليج، فهو البركة الآسنة التي أفسدت صفاء نهر العرب، منذ نشأة دويلاته على يد الاستعمار البريطاني، وحتى عهد ثورات الغضب.
وهكذا أفسدت طبائع الاستبداد طفولتي وشبابي، واكتَسبْتُ حساسية مفرطة ضد كل مديح، مضمّن أو صريح.. فالدكتاتورية عندنا يصنعها اللسان على هيئة الآلهة ثم يعبدها البشر !.
•••
غير أن البعض أورثته بيئة الرأي الواحد، والأفق الواحد، والقائد المفرد تشوها في بنية العقل.. حتى إذا جاءت الثورة بنسمات من الحرية، وأذابت حرارتها تماثيل الثلج التي نحتها صقيع الاستبداد، أصابهم ما يصيب الرضيع حين يفقد زجاجة الحليب، أو المدمن حين تنقطع عنه جرعة الأفيون، لقد أفزعهم ضياع آلهتهم.. فطفقوا يبحثون عن التعويض، ونبشوا في تاريخنا المخجل بحثا عن قائد يحيونه من جديد..
وكان بورقيبة باتفاق المدمنين !..
•••
بورقيبة هو رجل ينتمي للتاريخ، له ما له وعليه ما عليه. ومن المخجل لبعض الساسة استثمار أسوأ ما فيه: الزعامة الفردية، ونزعة التأليه.
لقد جعلوا من محاكمته الصورية هرطقة ونوعا من التجديف، واستكثروا على أولياء الدم مجرد إعادة كتابة التاريخ، وشبهوا الأمر كما لو أن الله قد نُصِبَت له محكمة بتهمة الخلق، خلق البشر والحجر في هذا الوطن !.
عندما يحاكم زعيم سياسي مثل ناجي جلول هذه المحاكمة بتهمة التطاول على المقدس وهو المُحَدِّثُ البارع في الحداثة والتحديث، لم يبق غير انتظار نص في التشريع يعَامَلُ فيه المؤرخون من خارج السيستام معاملة أعداء السامية في دول غربستان ..!
وهم، في كل الأحوال، لا ينكرون جريمة اغتيال بن يوسف.. فقط يرمون المحكمة بالجهل والتضليل، فالزعماء لا يُسألون عن الجريمة، بل عن الحكمة من وراء ارتكابها.. فهي بلا شك حكمة عظيمة !.
إذا استمرت عقلية التمجيد ، وغلب منطق التبرير لحقبة الاستبداد ، فلا أعتقد أن أي مسار تحديثي هو قابل للحياة ، ولا أعتقد أن بذرة الديموقراطية يمكن أن تحيا في أرض زُرَعت ملحا أجاجا .
الذين لا يستمتعون برؤية النجوم الكثيرة في كبد السماء، ويعتقدون أنها، بدون قمر منير لا معنى لها.. هم سبب تخلفنا وانحطاطنا، ودوام البلاء.
وكما نكون يولى علينا..
تلك هي حكمة السياسة في صيغة الماضي والمستقبل.. والآن، هنا..
** “ست”: هو إله العواصف والشر عند قدماء المصريين.