الثلاثاء 14 أكتوبر 2025
علي المسعودي
علي المسعودي

الدروس الخصوصية بين الضرورة والضرر..

علي المسعودي

في الوقت الذي تخلى فيه القطاع الخاص نهائيا عن قسم أبقراط، تحولت الصحة العمومية اليوم إلى مرض عمومي بامتياز. ففيها ترتكب جرائم القتل بلا أدنى خجل في حق الذين خاطبهم دستور 2014 بقوله الصريح: تكفل الدولة الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن… (و) تضمن ( … ) العلاج المجاني لفاقدي السند، ولذوي الدخل المحدود..
أما التعليم الذي يلحّ على عموميته ومجانيته نفس الدستور، فالجريمة هناك بحجم وطن، وارتدادات الأمراض المستوطنة فيه قد تقضي على أجيال كاملة، بل وعلى معنى الدولة الحديثة برمته !.
وأول أعراض هذه الأمراض المزمنة هو انتشار الدروس الخصوصية في المؤسسات التربوية والفضاءات الخاصة، في المنازل والمتاجر، وحتى في مآوي السيارات المهملة !.
الدروس الخصوصية هي في الواقع درس بليغ يحدثنا عن فشل منظومتنا التعليمية.. ولكن يبدو أن غباءنا يمنعنا من الفهم.
الدروس الخصوصية تدرس اليوم للناشئة أصول التجارة الحرة خالية من كل القيم، وتقتل وظيفة المعرفة في الرحم..
الدروس الخصوصية، حيث لكل سطر مكتوب ثمن، وحيث يصبح التقييم جزءا من بضائع العالم الحر، ويخضع الرسوب والنجاح لسوق العرض والطلب، وحيث المدرس بائع والتلميذ مشتر.. هي شاهد قبر على جسد منظومة التعليم التي أحيتها ثم دفنتها دولة الاستقلال.
الدروس الخصوصية هي إعلان عن فشل منظومة تربوية كاملة، هي خصخصة للتعليم تحت الطاولة، هي تحطيم للقيمة الاعتبارية للمدرس، وتحويله من مرتبة الأنبياء إلى متسوّل على أبواب الأثرياء أو بائع لكتيب حصن الحصين.
الدروس الخصوصية تلتهم مع الوقت كل القيم التربوية التي قامت من أجلها منظومة التعليم للدولة الحديثة، وتعيد انتاج نفس الفوارق الاجتماعية التي تدعي محاربتها ، بعد أن أصبحت المعرفة بضاعة تباع ولا تهدى لأحد.
•••
إذا دفعت بالقول أن حصة الدرس لا تكفي للتحصيل المعرفي، فثمة بلا شك خطأ في الزمن المدرسي.
وإذا قلت أن استيعاب الطالب ضعيف فثمة بلا شك خطأ في البيداغوجيا.
وإذا احتججت بكثافة الدروس فثمة بلا شك خطأ في برامج التعليم.
وإذا ألقيت اللوم على الولي، فثمة بلا شك خطأ في منظومة التقييم.
وإذا اتهمت المدرس باللهفة والوقوف وراء ازدهار هذه السوق، فثمة بلا شك خطأ في عدالة التأجير.
ليس المطلوب أن نتهم المريض بكثرة الأنين، بل أن نستمع إلى حديثه وآهاته وشكواه.
ولكن دولتنا العتيدة، تفلح فقط، في إلصاق التهمة بالجميع، في حين ترى نفسها دائما مثل المخلص المسيح.. ولكن بعين واحدة !.
•••
لقد أصبحت مؤسساتنا التربوية واجهات وهمية لخوصصة تتحول تدريجيا من الحجاب إلى السفور. فمقابل كل مقعد عمومي يوجد مقعد خصوصي، ومقابل كل جدول قانوني يوجد للأستاذ والتلميذ معا جدول مواز.
أما الجامعة العامة، شريكة الوزارة في جميع الآثام إن بالصمت أو العجز أو تلاقي المصالح، فموقفها هو اللاموقف.. ميوعة خالصة. وفي الوقت الذي يُطارَد فيه المدرسون مطاردة الساحرات، وأصبح بعضهم “مسخرة” كما كان من قبل معلّم الصبيان، ينبري قادتها إلى حلب “المجتمع المفتوح” للدفاع عن حق التعليم للجميع، دون أن يفصلوا الامر : هل هو مجاني أم بأجر مدفوع !
وأما سلطة الإشراف، فهي مثل منظم الحفلات، لا يهمه من الحفل سوى مطابقة عدد التذاكر لعدد الحضور !.. هي لا ترفض الموازي، بشرط الامتثال لقانونها في اقتسام المغانم.. ونخشى أن تتحول مع الايام من وزارة للتربية والتعليم، إلى مجرد وكالة لتنظيم الدروس الخصوصية وجباية المكوس..
وأما الإصلاح فله ربّ يحميه..


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

علي المسعودي

عندما تولد الآلهة .. وتموت أيضا ..

علي المسعودي تحتاج الدولة الغاشمة إلى شعب مؤمن عند الطلب حتى يستمرّ كيانها،.. بل إنها …

علي المسعودي

بيـــــان الخـلـع …

علي المسعودي الجامعة العامة للتعليم الثانوي تنتحر كل يوم.. وفي كل يوم تقطع شريانا من …

اترك تعليق