إن الخطاب، وهو كل ما يحمل رسالةً للمتلقي وكل ما يشكل أداة اتصال وتفاهم، يكون إسلاميًا إذا أدرك صانعُه (الإمام أو السياسي أو المصلح أو المفكّر أو الكاتب) روح الإسلام ومقاصده، وأدرك الأصول العامة والمبادئ الأساسية التي لا يصحّ في أي حالٍ تجاهلها أو الخروج عليها.
إنّ خطاب جماعة ما يمكن أن يكون عرضةً للتجزئة؛ فيكون الجانب التربوي -مثلا- إسلاميا أما السياسي والاقتصادي فمختلط إلى درجة تجعله غير إسلامي، والعكس موجود ونعيشه. كما أن بعض الخطابات تكون إسلامية من غير أن يُعلِن بذلك أصحابُها، وأخرى هي في الحقيقة غير إسلامية في مضمونها رغم وَسْمها وعَنْونتها وكسائها بمصطلحات وأسماء وعناوين إسلامية، ومهما ادعى أصحابها من طهوريّة، فالرسالة الإسلامية مبنية على المعاني والأوصاف والحقائق لا على الأسماء والعناوين والكيفيات، كما قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
• في الآونة الأخيرة أصبحنا نسمع كثيرا عن تجديد الخطاب الإسلامي، فما المقصود بتجديد الخطاب الإسلامي؟!
أظن أن ذلك لا يعني أن نُعيده إلى الحالة التي كان عليها في عـهـدٍ سابقٍ بإطلاق، فذاك فعل غير سديد ولا حكيم، وهو أيضا أمر غير ممكن. وإنما التجديد في الخطاب الإسلامي يعني، حسب رأيي:
- أن نجعله كسابق عهده على مستوى التمسّك بالأصول والالتزام بالقيم القرآنية الكبرى، فنَصونُه عن الكذب والمبالغة والخرافة والتزوير، ونَنأى به عن أن يُوظّف لتحقيق مآرب شخصية ومنافع مادية وتموقعات ومكاسب سياسية.
- تجديد أوجه البرهنة والاستدلال وبلورة التداعيات المنطقية التي نستخدمها في ذلك الخطاب.
- استخدام الأساليب الكتابية والقولية والإعلامية الحديثة والملائمة للذائقة الثقافية المتجددة لدى الناس.
- ملامسة حاجات الناس وقضاياهم المعاصرة، والتركيز على أولوياتهم، والعمل على تبصيرهم بالفرص والتحديات التي تنتظرهم، ومحاولة إيجاد حلول معقولة وقابلة للتطبيق من صلب واقعهم.. ومحاولة خدمتهم والسعي لتنشيطهم.
• لكننا نلاحظ أن بعض الخطابات ”الإسلامية” تعاني من نقاط ضعف عديدة، مثلا:
- تفتقد بعض الجماعات والمرجعيات إلى الترابط على مستوى الأعمق بين أجزاء خطابها المختلفة، فتلاحظ أن ذلك الخطاب يشتمل -مثلا- على مفاهيم سياسية (تشجيع على الاستبداد وعلى التوريث وشرعنة الاغتصاب الدموي العنيف للسلطة ونعت المعارضة السلمية السياسية بالخوارج) تسيء لرؤيتهم وتوجههم المُعلن في المجال التربوي (الدعوة باللّين والتغيير النفسي الداخلي كأولوية وعدم استباحة دماء المسلمين وأعراضهم). أو يشتمل على مفاهيم اقتصادية (تشجيع الاقتصاد المفتوح والرأسمالية المتوحشة وخصخصة كل القطاعات الحيوية) تسيء إلى المجال الاجتماعي (فالفقير يزداد فقرا والغنيّ غنىً و ينتج عدم تكافؤ للفرص وفقدان الرعاية الصحية والاجتماعية الأساسية المناقضة للتكافل المطلوب وللمساواة المرجُوّة). والحلّ حسب رأيي في امتلاك رؤية كُليّة واضحة وقوية لكل ما يريدون ويسعون لتحقيقه، واستحضارها والتذكير بها لاستصحابها معهم في كل وقت.. هذا من شأنه أن يعصمهم من هذا الخلل الشبيه بالانفصام في الشخصية.
- بعض الخطابات الإسلامية خطابات سرديّة عجولة، تسوق الأخبار والآثار والحكايات والعبر والعظات دون أن تمنح نفسها الفرصة للتساؤل عما إذا كان ما يتمّ تقديمه وسوقه مناسبا فعلًا لأولويات الجماهير وحاجاتهم المعرفية والإصلاحية! فهو خطاب منغلق على ذاته متمحورٌ حولها. والحلّ أن يحاول رواده الإصغاء إلى الجماهير والاستماع إلى مشاكلهم والأخذ بنقدهم، ثم بلورة خطابهم بناءً على المعطيات الجديدة.. أي أن يعتمدوا على ما يُسمى التغذية المُرْتَدّة feed back في تشكيل وعيهم ورؤاهم وبرامجهم.
- بعض الخطابات حَالِمة طُهوريّة فوق اللازم، تتحدث عن القرن الأول والثاني من التاريخ الإسلامي وعن إنجازات الصحابة والتابعين وتريد من الجماهير المعاصرة أن تكون على نفس المستوى في السلوك والإنجاز الحضاري، بقطع النظر عن تغيّر الزمان والمكان والظروف الاجتماعية والسياسية والثقافة السائدة. فتصبح هذه الخطابات عند اصطدامها بالواقع الصعب خطابات مُحبِطة للجماهير داعية للقنوط من حيث أرادت الإصلاح، والنتيجة هي عدم تحريكها لا للعقول ولا للهمم والأجساد. والحل هو أن يفهم أصحاب هذا الخطاب أن القرون المفضلة مثال يُحتذى به وقدوة نقتبس من نورها، لكنَّ تَطبيق ما قاموا به حرفيا أمر غير ممكن ولا سديد، وبالتالي علينا فهم ذلك التراث الجميل وتنسيب معطياته وترتيبها ومحاولة الاستفادة منه بمعقولية وذكاء.
والله أعلم وأحكم.