حسن أبو هنيّة
المدخلية تيار ديني مذهبي محافظ تقوم إيديولوجيته على نهج براغماتي شديد الواقعية، ينفر من الثورة والتغيير وينشد الاستقرار والحفاظ على الأمر الواقع. فهي تستند إلى معجم ديني هوياتي سلفي إحيائي يمجد طاعة “ولي الأمر المتغلّب بالقوة”.
يشير تنامي نفوذ السلفية المدخلية في العالم العربي عقب الانقلابات العسكرية العنيفة على الحركات الثورية الاحتجاجية التي اندلعت سنة 2011 إلى طبيعة السلفية المدخلية وماهيتها كجهاز إيديولوجي وسلاح قمعي بيد الأنظمة الدكتاتورية العسكرية.
فالمدخلية تيار ديني مذهبي محافظ تقوم إيديولوجيته على نهج براغماتي شديد الواقعية، ينفر من الثورة والتغيير وينشد الاستقرار والحفاظ على الأمر الواقع. فهي تستند إلى معجم ديني هوياتي سلفي إحيائي يمجد طاعة “ولي الأمر المتغلب بالقوة” كسلطة شرعية ما دامت توفر الاستقرار وتقيم الشعائر الدينية الإسلامية الظاهرة. فالأنظمة العربية الدكتاتورية تملك شرعية دينية حتى لو كانت علمانية.
والمدخلية تناهض الديمقراطية والعملية السياسية والنظام الحزبي والتداول السلمي للسلطة، وتحارب “الثورة” بوصفها تجسيداً “للفتنة” والفوضى، وتتعامل مع قوى التغيير السياسي في المجتمع كافة كجماعات من “المبتدعة”، وفرق من “الخوارج” المارقين، فشرعية الحكم التي تحكم سلوك المداخلة تنص على أن “من اشتدت وطأته وجبت طاعته”، وشرعية السلطة تقوم على أن “سلطاناً غشوماً خير من فتنة تدوم”.
لم تكن السلفية المدخلية قبل حرب الخليج الثانية سوى تيار هامشي، وسط صعود تيارات الإسلام السياسي عموماً، وجماعة الإخوان المسلمين خصوصاً، وتنامي حضور السلفية الجهادية والسلفية الإصلاحية والسلفية العلمية.
إذ تعود بدايات الظهور العلني للسلفية المدخلية إلى زمن حرب الخليج الثانية سنة 1991 في المملكة العربية السعودية. وقد ظهر التيار المدخلي بداية في المدينة المنورة علي يد محمد أمان الجامي (1930-1996)، ومنه أُخذ اسم “الجامية”.
تطورت مدرسة التيار المدخلي بصورته الراهنة على يد ربيع بن هادي المدخلي بصورة أساسية، وإليه يُنسب التيار “المدخلي”. وقد برز التيار المدخلي بداية من خلال مناهضة حركات الإسلام السياسي والسلفيات الجهادية والإصلاحية والعلمية عموماً، و”دعاة الإسلام الصحوي” في السعودية خصوصاً؛ أمثال سفر الحوالي، وناصر العمر، وسلمان العودة، ومحمد سعيد القحطاني، وغيرهم.
هؤلاء استنكروا وأدانوا الاستعانة بالقوات الأجنبية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة العراق، إذ أفتى المداخلة بمشروعية دخول القوات الأجنبية إلى السعودية والاستعانة بها ضد العراق، انسجاماً مع توجه علماء المؤسسة الوهابية الرسمية السعودية.
صبت السلفية المدخلية جامَ غضبها على جماعة الإخوان المسلمين بوصفها سنداً إيديولوجيا للسلفية الجهادية، وصنفت عشرات الكتب والرسائل في التحذير من أفكارها عموماً وفكر سيد قطب خصوصاً.
وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي، أصدرت تقريراً للأجهزة الأمنية بعنوان “التنظيم السري العالمي بين التخطيط والتطبيق في المملكة العربية السعودية”، أوصت فيه “السلطات السعودية بأن تتحرك بأسرع وقت ممكن، لوضع حد لأنشطة المنظمة المذكورة”، إذ شنت السلطات السعودية حملة اعتقالات واسعة على الدعاة والعلماء المحسوبين على تيار الصحوة الإسلامية في المملكة، وحظرت أنشطتهم.
تبنت السلطات السعودية السلفية المدخلية، واستدخلتها في أجهزتها الإيديولوجية بعد حرب الخليج الثانية، وتنامت أدوارها وزاد نفوذها بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، إذ باتت السلفية المدخلية أحد أهم أركان الجهاز الإيديولوجي للدولة.
وعملت السعودية على دعم السلفية المدخلية في أرجاء العالمين العربي والإسلامي كافة، لمواجهة أطروحات التيارات الإسلامية السياسية، وقد مكّنت مقاربة الرعاية/الولاء السلفية المدخلية من التموضع داخل المؤسسات التعليمية والإعلامية والمساجد والمؤسسات المعنية بالشؤون الدينية.
أدخلت الحركات الاحتجاجية الثورية العربية 2011 التي شكلت تحدياً لشرعية الدكتاتوريات العربية وبنيتها تحولاً نوعياً في أدوار السلفية المدخلية، فإلى جانب أدوارها التقليدية الإيديولوجية استدخلت في إطار الأجهزة القمعية، وشرعت في تأسيس هياكل عسكرية ومليشيات مسلحة.
إذ لم تكتفِ بإصدار فتاوى مناهضة للحركات والمظاهرات والاحتجاجات الثورية العربية، فقد أفتى الشيخ ربيع المدخلي وأتباعه بحرمة الثورات والاحتجاجات والمظاهرات، لكنه سرعان ما دعا للانخراط في الأعمال القتالية وتشكيل مليشيات مسلحة ضد حركات الإسلام السياسي والجهادي بوصفهم من الـ”خوارج” و”البغاة” المتمردين على سلطة “ولي الأمر”، وناشري الـ”الفتن”.
سرعان ما انتشرت السلفية المدخلية في معظم البلدان العربية والإسلامية، ففي مصر برز محمد سعيد رسلان، صاحب الفتوى الشهيرة لجنود السيسي بوجوب قتل المعارضين من أهالي كرداسة وغيرهم، وظهر أسامة القوصي، ومحمود لطفي عامر، وطلعت زهران، وغيرهم، في فتاوى الولاء للحكم العسكري والبراء من الإسلام السياسي.
ولم تقتصر حملة السلفية المدخلية على مناهضة جماعة الإخوان المسلمين، والتيار الجهادي، بل طالت حركات المقاومة الفلسطينية، لا سيما حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي نعتها رسلان بـ”خوارج العصر”، استناداً إلى فتوى ربيع المدخلي بأن “الإخوان المسلمين لم يتركوا أصلاً من أصول الإسلام إلا نقضوه”.
في سياق التحول من الدور الإيديولوجي إلى المجال العسكري، شرعت السلفية المدخلية بتأسيس هياكل عسكرية ومليشيات مسلحة، في الدول التي تفتقر إلى وجود مؤسسة عسكرية فاعلة، إذ باتت تتمتع بحضور قوي وبارز في ليبيا واليمن بالتحالف مع دكتاتوريات محلية ناشئة، وبإسناد من السعودية والإمارات ومصر.
فخلال وجودها في مجموعات مسلحة رئيسية في شرق البلاد وغربها على السواء حسب “مجموعة الأزمات الدولية”، فإنهم يمارسون نفوذاً سياسياً على الحكومتين المتنافستين اللتين نشأتا بعد عام 2014.
إن صعود السلفية المدخلية داخل القطاع الأمني يتماشى مع نمط شائع لدى الفصائل الليبية المتحاربة الأخرى، الإسلامية وغير الإسلامية، التي سعت إلى توسيع نفوذها باختراق الجهاز الأمني وتغيير منظور أفراده للعالم. أما الآن، فقد أثارت أجندتهم المعادية للديمقراطية ورفضهم للتنوع الديني والثقافي في ليبيا مخاوف متنامية لدى الكثير من الليبيين، وهو ما يتطابق مع الحالة اليمنية.
كان ظهور السلفية المدخلية كمليشيات مسلحة في اليمن ميسّراً، نظراً إلى وجود هياكل ناجزة منذ زمن الشيخ مُقبل بن هادي الوادعي، والذي يعد مؤسس السلفية المعاصرة في اليمن، وقد خرجت من رحم مدرسته تيارات سلفية عديدة، ومنها المدخلية.
من أبرز رموز هذه المدرسة خليفة الوادعي وتلميذه يحيى بن علي الحجوري، الذي خلفه على كرسيه في دار الحديث. وكان الحجوري يشدد على وجوب طاعة ولي الأمر، ووقف موقفاً صارماً ضد الثورة اليمنية في فبراير/شباط 2011 ، كما هاجم مَن يطالبون بتنحي علي عبد الله صالح من العلماء والمتظاهرين.
وقد تماهى الحجوري لاحقاً مع الأجندة الإماراتية والسعودية، وهاجم قطر وإيران، ونادى بوجوب محاربة الحوثيين وقاد الحرب بنفسه، مع طلبته، لكن سرعان ما سيطر الحوثيون على مقر دار الحديث في دمّاج.
ظاهرة السلفية المدخلية المسلحة في اليمن سوف تظهر بقوة مع كتيبة أبي العباس، التي أسسها الشيخ عادل عبده فارع أبو العباس، والتي تعرف كذلك بـ”حماة العقيدة” في (تَعْز).
أما هاني بن بريك فقد تتلمذ كذلك على يد الوادعي في دار الحديث بدمّاج، وعُين وزيراً ( أقيل لاحقاً) لدوره في قتال الحوثيين وقوات صالح بعد انقلابه على طاعته، وعلاقاته الوثيقة مع الإمارات. ويقود بريك قوات “الحزام الأمني” في محافظة عدن، والتي أسستها وتدعمها الإمارات، ويجمع تحت قيادته 12 ألف مقاتل.
في ليبيا تمتع الفكر المدخلي برعاية القذافي، عن طريق ابنه الساعدي، نظراً إلى مواقفه الصارمة بحرمة الخروج على ولي الأمر ووجوب طاعته، ومناهضته للجماعات الإسلام السياسي والجهادي، بوصفها من “الخوارج”.
وقد أفسح نظام القذافي للمداخلة المجالَ واسعاً للانتشار والتمكين، ولذلك دعم التيار المدخلي القذافي مع انطلاق ثورة 17 فبراير 2011، وعارض الثورة وأفتى رموزه بحرمة المشاركة فيها. وعقب نضوج الثورة المضادة، أصبح التيار المدخلي فاعلاً مسلحاً مع تدشين “عملية الكرامة” في ليبيا منتصف 2014 بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي بات في نظرهم ولياً للأمر تجب له السمع والطاعة والقتال تحت رايته.
استخدم حفتر التيار المدخلي كما فعل القذافي، لمواجهة الجماعات الإسلامية والحركات السياسية المناهضة له، إذ ظهرت كتائب مدخلية مسلحة، ككتيبة 604 مشاة، وكتيبة التوحيد، وسيطر المداخلة على مواقع عسكرية في بنغازي وأجدابيا والجبل الأخضر، وعلى فرق عسكرية مهمة مثل الكتيبة 210 مشاة والكتيبة 302 صاعقة.
تمكن المداخلة تحت ولاية حفتر من تولّي العديد من المناصب في الجيش، كتولّي العقيد ميلود الزوي، المدخلي البارز، مهمّةَ الناطق باسم القوات الخاصة في بنغازي، والرائد علي الثابت ناطقاً باسم قوات البحرية في بنغازي، والملازم محمد البوعيشي كآمر لقوة مكافحة الإرهاب في أجدابيا.
ومن أبرز الرموز المدخلية المسلحة الليبية وأكثرهم عنفاً محمود الورفلي، وهو آمر محاور قوات الصاعقة، ومطلوب دولياً من قبل محكمة الجنايات الدولية لتورّطه في “جرائم حرب”، بعد أن ظهر في عدة مقاطع مصورة وهو يقوم بتصفية ميدانية بلا محاكمة وخارج القانون لعدة أشخاص، واصفاً ضحاياه بـ”كلاب أهل النار” و”خوارج العصر”، وانتشرت مقاطع مماثلة لقيادات بارزة من التيار المدخلي كعبد الفتاح غلبون، ومجموعات أخرى تصدر بيانات يدعمون فيها الورفلي ويسمونه بــ”قاهر الخوارج والإخوان والتكفيريين”.
على الرغم من شهرة الورفلي، فإن المداخلة في ليبيا ينتشرون بقوة من خلال رموز عدة، أمثال قجة الفاخري، وهو أحد مسلحي التيار المدخلي الليبي، وأشرف الميار وهو رائد بجيش حفتر والمؤسس لأولى كتائب السّلفية بقواته، وأحمد الحاسي الذي قُتل في ظروف غامضة، ثمّ الملازم عبد الرؤوف كاره، قائد قوة الردع الخاصة الموجودة في طرابلس.
خلاصة القول أن السلفية المدخلية تعمل كجهاز إيديولوجي وسلاح قمعي بيد الأنظمة الدكتاتورية العسكرية العربية، فطبيعتها الدينية المذهبية المحافظة، شكلت إيديولوجية براغماتية شديدة الواقعية، تمجّد القوة الفجة بذريعة جلب الاستقرار.
ويمتازُ المعجم الديني الذي تنهل منه السلفية المدخلية بطابع هوياتي تقَوي سلفي إحيائي، يقوم على مُسلّمة طاعة “ولي الأمر المتغلب بالقوة”، ويمنحه سلطة شرعية، ما دام يوفر الاستقرار ويقيم الشعائر الدينية الإسلامية الظاهرة.
كما لا يجد هذا التيار حرجاً في نقل ولائه إلى من تتوافر فيه صفة “القوة والغلبة”، وتكمن خطورته في إمكانية التحول من “يوتوبيا” الاستقرار إلى “دستوبيا” الفوضى، فهي تناهض الديمقراطية والعملية السياسية والنظام الحزبي والتداول السلمي للسلطة، وتحارب “الثورة” بوصفها تجسيداً “للفتنة” والفوضى، وتتعامل مع كافة قوى التغيير السياسي في المجتمع كجماعات من “المبتدعة”، وفرق من”الخوارج” المارقين، و”البغاة” و”المحاربين”. وبذلك يسهل توظيف السلفية المدخلية، لكن يصعب التعايش معها.
TRT عربي.