أحزاب وعسكر ..
علي المسعودي
أنا لست خبيرا استيراتيجيا حتى بالمعنى التونسي الركيك، كما لا أدّعي اختصاصا بحال السودان الشقيق.. ولكنّ قيظ الاستبداد العربي يقتلني، ويكاد يقطع أنفاسي، فأخرج كل مساء أتسقّط أنواء الثورات، وأتابع نسيم الحرّية يحمله خبر هنا أو هناك.. فاسمحوا لي تطفلي لأحدّثكم -من وجهة نظري- عن ربيع هذا البلد، ربيع ننتظر أن تينع حقوله، كما ينتظر والد أوّل ولد.
حزب أم طائفة ؟
يعدّ المواطن السوداني من أكثر العرب وعيا سياسيا وإقبالا على المشاركة السياسية. فالأحزاب السودانية عريقة، وراكمت تاريخا طويلا من العمل السياسي. بعضها ولد قبل الاستقلال، وبعضها يستمدّ هويته من تجربة مقاومة الحكم العثماني ثم البريطاني… هذا الانتظام المبكر في الحياة السياسية جعل المجتمع السوداني في تركيبته أقرب إلى طوائف لبنان. فالانتماء السياسي يبقى متوارثا في العائلة والقرية كما يتوارث اللبنانيون المذهب والطائفة على مرّ السنين. بل إن الولادة المبكرة جدا لبعض الأحزاب جعلت عددا منها يخلط بين السياسي والطائفي، ولا يستقيم وجوده إلا بهما معا. فنشأت أحزاب للسنة والجماعة وأخرى للطرق الصوفية المختلفة، في تزاوج مثير بين التراث والفعل السياسي المعاصر.
وفي المقابل يختص السودان بحزب شيوعي يخترق كل هذه الحدود الطائفية ليصنع لنفسه طائفة لذاته. وقد سلم تقريبا من حالات التشظي الكثيرة التي اعتاد عليها يسارنا العربي بالنظر إلى الخصوصية المجتمعية التي قام عليها شأن السياسة في هذا البلد. ولعل هذا ما جعله يتبوأ المراتب الأولى بين أقرانه العرب فضلا عن قدم نشأته.
ولكن المفارقة أنه بقدر هذه العراقة الحزبية، قليلا ما يؤمن الساسة في السودان بجدوى هذا الانتماء ! فكلما أراد فصيل سياسي تقلد الحكم امتطى صهوة الجيش بدل الركون إلى صناديق الانتخاب !.. وهذا يقودنا إلى ثنائية الأحزاب والعسكر.
أحزاب تحشد وعسكر يحكم
على مدى تاريخ السودان السياسي بعد الاستقلال، كان العسكر هو دائما من بيده مقاليد الحكم بالبلاد، باستثناء فواصل زمنية قصيرة غير ذات أهمية. والغريب أن العسكر لا يدعو نفسه طمعا في السلطة، بل يتم استدعاؤه من قبل الأحزاب المدنية ذاتها. في سنة 1958 سلّم السياسيون الحكم لابراهيم عبود طوعا لينتهي حكمه بثورة شعبية بعد ست سنوات. ولم يدم الحكم المدني الا خمس سنوات، لتعقبه الانقلابات المدبرة من قبل الأحزاب المدنية. فانقلاب جعفر نميري سنة 1969 كان من صنع الحزب الشيوعي السوداني، وانقلاب عمر البشير كان من صنع الجبهة الاسلامية لحسن الترابي. والغريب أن كلا الانقلابين قد انتهيا بانقلاب فعلي للأجير على المؤجر وللجنرال على السياسي.. فقادة الحزب الشيوعي انتهت رحلتهم السياسية على يد النميري نفسه في غرفة الإعدام، وقادة الجبهة أو المؤتمر الشعبي لاحقا حشروا في زنازين عمر البشير.. فكان الدرس الذي لا يغفل عنه عاقل: الحرية السياسية والعسكر لا يلتقيان، والجيش لا تأمن جانبه.. وهنا ينتهي بنا الحديث إلى حراك ديسمبر الثوري، والذي رفع لأول مرة الفيتو في وجه مجالس الانتقال العسكرية.
فالجيش مثل أشعب، إن دعوته مرّة لوليمة، سيدعو نفسه مرات دون وليمة !
18 أكتوبر السوداني أو ائتلاف قوى الحرية والتغيير
قوى الحرية والتغيير هي ائتلاف واسع بين أطياف سياسية ومدنية تختلف فيما بينها أشد الاختلاف. وحتى حركات الكفاح المسلح وجدت لنفسها مكانا ضمن هذه الفسيفساء التي يجمعها أمران: التوق إلى الحرية والتغيير، ورفض هيمنة العسكر على سلطة القرار السوداني بعد الآن.
كانت حركة 18 أكتوبر التونسية لحظة خاطفة لتوحّد المختلفين زمن الاستبداد، كانت لقاء الضرورة.. وما إن جاءت رياح الثورة حتى ندم الجميع على خطإ ما كان ينبغي أن يكون. واستبدلنا شراسة النضال ضد الاستبداد بشراسة في القتال بين الإخوة الأعداء.. فكان غباء سياسيا فظيعا، فتح بابا عريضا لتعود منه الثورة المضادة عودة الفاتحين.
أما قوى الحرية والتغيير، فيبدو أنها قد استخلصت من ماضي السودان ومن تاريخ ثورات الربيع العربي كل العبر. ولولا ائتلاف مماثل لما نجح السودانيون في إسقاط ابراهيم عبود ذات ربيع غابر… ولا يبدو أن عقد الائتلاف الواسع مقبل على انفراط. هو يعرف أن لعبة العسكر هي دائما فرق تسد. وهو يعلم أن المسألة مسألة موت وحياة. وعلى الأقل فقد حدد لنفسه أجلا بسنوات أربعة كاملة. وهو عمر كاف لبناء لغة تعايش مشتركة، وصياغة ميثاق للعمل السياسي القويم. قد يراه البعض زمنا طويلا، ولكنه ضروري في حالة السودان الشقيق. وفي كل الأحوال فقد أضعنا في تونس ضعفها دون أن يقابل حساب البيدرما أملناه في حساب الحقل..
أعتقد جازما أن الخطر الحقيقي هو خارجي في المقام الأول. فالتوازنات الجيوستراتيجية تجعل من حزام الاستبداد العربي المحيط بالسودان هو العدو الحقيقي للحراك الثوري. وقد بدأ فعلا في عملية الاحتواء. وينبغى أن نتذكر أن أول ثورة شعبية عربية انطلقت من السودان سنة 1964 ، وأن من حاول افشالها والعبث بها هو نظام عسكري آخر، هو نظام عبد الناصر… والتاريخ كما نعلم في صالح الحراك، فهو لا يعيد نفسه إلا في شكل مهزلة !.