تونس واتفاقيّة الأليكا.. من نحن وماذا نريد أن نكون؟ (2 – 3)

وليد حدوق
نحاول في هذا المقال بأجزائه الثّلاثة تناول فرص وتحدّيات “اتّفاقيّة التّبادل الحرّ، الشّامل والمُعمّق مع الاتّحاد الأوروبيّ” المعروفة بالأليكا من زاوية تنتهي إلى ضرورة المُضيّ قُدما في توقيع هذه الاتّفاقيّة. وبقدر ما ينطوي النّقاش حول هذه الاتّفاقيّة على أبعاد فنّية في الفلاحة والصّناعة والتّجارة، فإنّه يفتح الباب أمام تساؤلات جوهريّة حول النّمط أو المنوال التّونسيّ الاقتصاديّ الاجتماعيّ أي باختصار: من نحن وماذا نريد أن نكون؟
وفي هذا الجزء الثّاني، نتناول القطاع الفلاحي والتّأثيرات المُفترضة للأليكا كما نعمل على مساءلة فرضيّات شائعة حول السّيادة والأمن الغذائيّين ومصالح صغار الفلاّحين وغيرهما.
 
يحتلّ قطاع الفلاحة والأخطار المُفترضة المُحدقة به مكانة رئيسيّة في خطاب الرّافضين لاتّفاقيّة الأليكا، وإجمالا تنطلق الآراء الرّافضة لمضمون هذه الاتّفاقيّة بتعلّة السّيادة من اعتبارين رئيسيّين: الأوّل هو المتعلّق بملاءمة التّشريعات والمعايير أو كما يسمّيه نصّ الاتّفاق “التّقارب التّشريعيّ” التّونسيّ الأوروبيّ والثّاني، وهو إلى حدّ كبير مرتبط بالأوّل، فيتعلّق بالأمن الغذائيّ ومستقبل الفلاحة المعاشيّة والخصوصيّات الفلاحيّة التّونسيّة بصفة عامّة.
اقرأ أيضًا: تونس واتفاقيّة الأليكا.. من نحن وماذا نريد أن نكون؟ (1 – 3)
هل تهدّد الأليكا صغار الفلاّحين؟
فيما يتعلّق بالتّقارب التّشريعيّ التّونسيّ الأوروبيّ، والذي يعتبره بعض المُحلّلين “من قبيل الاستعمار في بلد لا يمكن له أن يكون عضوًا في الاتّحاد الأوروبيّ”1، فإنه وكما جاء في إجابة رسميّة لبعثة الاتّحاد الأوروبيّ في تونس “يتعلّق بما تختاره تونس كأولويّة”2، وهو عمليًا، وكما تُبيّن ذلك الحالات المُقارنة على غرار المغرب الأقصى وتمّت الإشارة له بوضوح في الإجابة الرسميّة الأوروبيّة، يتعلّق بالمعايير الصحّية الحيوانيّة والنّباتيّة وغيرها من المعايير الفنّية للإنتاج الفلاحيّ والصّناعيّ وبعض الخدمات.
وإذا ما وضعنا المخاوف “الاستعماريّة” جانبًا والتي لا تستقيم منطقيًا إلاّ بالدّعوة لإلغاء كلّ التزام دوليّ، فإنّ المخاوف الحقيقيّة والمفهومة تتعلّق بتأثير تطبيق هاته المعايير الصحّية والنّباتيّة على صغار الفلاّحين وملاّك الأراضي التي تساوي مساحتها أو تقلّ عن 10 هكتارات والتي تشكّل حوالي ثلاثة أرباع الأراضي الفلاحيّة والتي يقلّ أكثر من نصفها عن 5 هكتارات. وتُشكّل هاته المخاوف بهذا المعنى سؤالًا صحيحًا بيد أنّ أيّ إجابة، وأوّلها الإجابة الحمائيّة البسيطة، لن تكون موفّقة إذا لم تعتمد في الحدّ الأدنى على دراسات كمّية مُقارنة لتقييم الكُلفة المُحتملة ومن ثمّة أثرها وإمكانيّات إدارتها.
وتقدّم لنا دراسة كمّية للبنك الدّوليّ حول كُلفة ملاءمة المعايير الصحّية والنباتيّة الأوروبيّة على زراعات القوارص والطماطم المُوجّهة للتّصدير في المغرب الأقصى3 خلاصات أوليّة قد تكون ذات مغزى للسّياق التّونسيّ، إذ لا تتجاوز كلفة ملاءمة المعايير الصحية والنباتيّة لضيعة متوسّطة المساحة (10 هكتارات) تختصّ في الطّماطم أو القوارص نسبة 8 في المائة من كلفة الإنتاج قبل الجني والنقل والترويج ونسبة 3 في المائة من الكلفة الإجماليّة بعد التّرويج. وهي كلفة يمكن بيُسر تجاوز انعكاسها على الفلاّح والمستهلك النّهائيّ إذا ما تمّ التقليص من نزعات الاحتكار المرتبطة بالواقع المافيوزي لإدارة أسواق الجملة ودور السّماسرة فضلًا عمّا يتعرّض له الفلاّح من تضييق في التّرويج والنّقل.
وعلى سبيل المثال، وإذا كان بعض صغار الفلاّحين والمربّين منهم على وجه الخصوص يجمّعون ويبيعون الحليب لشركات كبرى معروفة، أصحابها فاعلون رئيسيّون في اتّحاد الصّناعة والتّجارة وعبّروا هم أيضًا عن رفضهم للأليكا4، فلا ضير من أن يتحمّل هؤلاء جزءًا من الكلفة التي نفترض أنّ صغار الفلاّحين سيتحمّلونها، وأن تجهد الصّناعات الغذائيّة في رفع جودة ما يبيعونه في السّوق التّونسيّة لعلّها تصل إلى مستوى من التّنافسيّة يجعلها قادرة على المنافسة خارج البلاد. وإن لم يكونوا أهلًا لذلك فإنّ الحلّ لا يكمن في حمايتهم بتعلّة الخشية على مصلحة صغار الفلاّحين وإنّما بتقوية صغار ملاّك الأراضي ومرافقتهم لتطوير ثقافة إنتاج جديدة.
وكما يشير تقرير البنك الدّوليّ المُشار إليه سابقًا بخصوص الحالة المغربيّة، فإنّ العائق الأهمّ أمام صغار الفلاّحين لا يكمن في الكلفة الماليّة (المرتفعة استثنائيًا بالنّسبة لصغار الفلاّحين في مجال القوارص) فحسب وإنّما يتمثّل في عامل الزّمن الذي تستوجبه هذه الملاءمة، ففي حين لا تحتاج المساحات الكبرى لأكثر من سنة في أقصى الأحوال فإنّ هذه المدّة قد تصل إلى ثلاث سنوات بالنّسبة للمساحات الصّغرى (أقلّ من 10 هكتارات).
تعيد هذه المعطيات، في الواقع، طرح سؤال قديم جديد حول الملكيّة العقاريّة الفلاحيّة في تونس، ولا تعدو رهانات “الأليكا” أن تكون حافزًا للكفّ عن الموقف السلبيّ التأجيليّ بهذا الخصوص منذ فشل التّجربة التعاضديّة التي قادها أحمد بن صالح في ستينيات القرن الماضي. وإذا كانت البيروقراطيّة والطّابع الدّولتيّ فضلًا عن المحاولة المأساويّة في فرض التّعاضد على التّجّار وأرباب الصّنائع قد أجهضا هذه التّجربة، فإنّ ذلك لا يعني أنْ ضرورة إصلاح زراعيّ في وجهة تعاونيّة تُعيد ترتيب الملكيّة الخاصّة دون إلغائها قد ولّت أو أنّها تقبل التّأجيل. بيد أنّ هذه الثّروة التّعاونيّة المطلوبة لا بدّ لها من وعي جماعيّ بضروراتها، وهذا الوعي لن يرى النّور إلاّ بتحرّر الهياكل التّعاونيّة القائمة بما فيها مُجمّعات التنمية الفلاحيّة من أغلال البيروقراطيّة فيما يشبه استنساخًا لنموذج الإدارة العموميّة، وتكريس السّلطة الفعليّة على التّعاونيّات والتّعاضديّات لصالح أعضائها وضمان استقلاليّتها عن الإدارات الجهويّة للفلاحة وتدخّل الدّولة في التّسيير5. وعمومًا فإنّ الإجابة على هذا السّؤال تونسيّة محضة وليس الردّ الحمائيّ إلاّ تبسيطًا واستسهالًا تعسّفيًا لها.
الأليكا، الفلاحة التّصديريّة وفرص حماية التنوّع البيولوجي
أمّا الاعتبار الثّاني، وهو المتعلّق بالأمن الغذائيّ والفلاحة المعاشيّة والتّنوّع البيولوجي، فيتمثّل حسب المدافعين عنه في كون الأليكا ستفاقم من التّوجّه التصديريّ القائم منذ الستّينيات للفلاحة التّونسيّة6 والذي يحول، وفق أصحاب هذا الرأي، دون أيّة محاولة للاكتفاء الغذائيّ الذّاتيّ فضلًا عن التّهديدات القائمة أصلا للتّنوّع البيولوجي7.
وبخصوص الفلاحة التّصديريّة المتّهمة بكلّيتها باستنزاف الثروة المائيّة والقضاء على التنوّع البيولوجي لكونها تسعى للاستجابة للطّلب العالميّ، فتجدر الإشارة للتّغييرات المهمّة للسّوق العالميّة والأوروبيّة للموادّ الفلاحيّة والتي على عكس ما قد نفترضه تفتح آفاقًا أكبر ربّما من السّوق الدّاخليّة للتّنوّع البيولوجيّة والخصوصيّات العضويّة التّونسيّة والمحلّية.
وعلى خلاف ما قد يفترضه البعض من محدوديّة مردوديّة الفلاحة البيولوجيّة وديمومة تأثيرها على مستوى السّوق العالميّة، تُبيّن دراسة كمّية أجريت في جامعة ولاية واشنطن بالتّعاون مع مركز بحوث هنديّ سنة 2015 حول “التّنافسيّة الماليّة للفلاحة العضويّة” أنّ هذا النّوع من الفلاحة يؤمّن قيمة غذائيّة أكبر ومردوديّة ماليّة أهمّ بما يجعله أكثر تنافسيّة من حيث الكيف من الفلاحة التّقليديّة8. وعليه وإذا كانت آفاق السّوق العالميّة أرحب لهذا النّوع من الزّراعة وهي أكثر استدامة من حيث الحفاظ على الثروة المائيّة والسّيادة البيولوجيّة، فإنّ “الأليكا” وغيرها مما قد يُتاح من وسائل الكسب في هذا العالم عُنصر مساعد لا خطر مُحتمل إن توفّر الوعي بذلك وإن توفّر شرط السّعي له ولما يوفّره التبادل الحرّ من فرص الرّزق والمردوديّة الماليّة.
وممّا يؤكّد تهافت المقاربة الحمائيّة وما يستتبعها من رفض للتبادل الحر مع الاتّحاد الأوروبيّ في هذه الحالة، فهي الوضعيّة الحاليّة للسّيادة البيولوجيّة والجينيّة التّونسيّة. إذ وكما أشار إلى ذلك مؤخّرًا ناصر مبارك مدير عامّ بنك الجينات فقد نُهبت من تونس ستة آلاف صنف من البذور تمّ استرجاعها واعتبر أنّ “تونس مُستباحة من حيث ثروتها الجينيّة في ظلّ غياب قانون يحول دون سرقتها”. وفي ظلّ “حجب وزارة الفلاحة للدّعوات التي يتلقّاها البنك لحضور ملتقيات دوليّة” ووجود “باحث وحيد في قطاع الخضروات وباحث واحد في القطاع الحيواني”9، وكما هو معلوم فإنّ ما من اتّفاقيّة تبادل حرّ مُمكنة تحرم تونس من تكريس كلّ الإمكانيّات لحماية ما هو جدير بالحماية أي السّيادة الجينيّة في إطار اتّفاق دوليّ على ضرورة تأمين التنوّع البيولوجي10، بل إنّه يُمكن لآليّات المرافقة والدّعم المالي للأليكا أن تُوجّه خصّيصًا لهذه الحماية المطلوبة.
وعلى نفس النّحو، فقد يغدو الغلوّ الحمائيّ الذي تُعبّر عنه بعض الآراء في تونس عبئًا على الحماية وقد تخرج عن نطاق المعقول والمقبول، على غرار ما تصفه ندى الطريقي وهي عضو مؤسّس في مرصد السّيادة الغذائيّة والبيئة بـ”غزو الزياتين”11 والحال أنّ تراثنا في هذا الشّأن وهو محمود يعتبر “الزّياتين بركة”، وأنّه لا يمكن إلاّ أن نسعد لغزو “الشملالي” و”المسكي” و”الشتوي” وغيرها من الأشتال التي تزخر بها بلادنا. في المقابل والتماسًا للعذر، فقد يكون الغزو المذموم للزياتين هو ذاك الذي يتعلّق بمشاتل الزيتون الأسباني واليوناني والتي تمثل بالفعل تهديدًا جدّيا للقيمة المضافة ولمستقبل الزّياتين التّونسيّة، وهو تهديد لم تحل الحمائيّة القائمة للقطاع الفلاحيّ دونه12.
عن السّيادة الغذائيّة وضرورات إحياء التّراث الغذائيّ
أمّا من زاوية السّيادة والأمن الغذائيّين والذي تُتّهم الفلاحيّة التّصديريّة أيضا بالمفاقمة في هشاشته، فإنّ هذا الاتّهام يعود في الواقع إلى جمود في النّموذج الذي تقوم عليه طروحات السّيادة الغذائيّة السّائدة في تونس على الأقلّ. إذ كثيرًا ما يقع الخلط بين الأمن في المأكل والأمن في التّغذية13، فالأمن الغذائي الحقيقيّ هو ذاك الذي يراعي مسألة الصحّة العامّة في السّلوك الاستهلاكيّ ولا يسعى لتلبية الطّلب الدّاخليّ كمّيًا بمعزل عن مُعطياته الكيفيّة. وبمعنى آخر، فإنّ الأمن الغذائيّ المستديم هو ذلك الذي يأخذ بعين الاعتبار السّلوك الاستهلاكيّ ليوجّهه ولينتهي ربّما بمراجعة الدّعم لـ”الخبزة” والمعجّنات والوفرة المُهلكة والمدعومة للسكّر وغيرهما على غرار “الطماطم معجون” والتي لا تزال تنعكس سلبًا على الصحّة العامة والكُلفة الوطنيّة للضمان الاجتماعيّ14.
ونتيجة لذلك، فإنّ أيّ حديث عن الأمن الغذائيّ وبقدر ضرورة تجاوزه للرؤية النّمطيّة حول مُتغيّر العرض الفلاحي وعلاقته بتجارة الموادّ الفلاحيّة فإنّه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار بُعدين رئيسيّين: يتعلّق الأوّل بتقريب الفلاحة من المراكز الحضريّة بالاستفادة من تقنيات الفلاحة الحضريّة العضويّة15 والتي تفتح آفاقًا للتمييز بين الفلاحة الاستهلاكيّة المعاشيّة والفلاحة بما هي قطاع تجاري، وهذه الفلاحة الحضريّة تمثّل نواة لثورة زراعيّة ممكنة لم تتقدّم فيها تونس بعدُ للأسف.
أمّا البعد الثّاني، فيتعلّق باستعادة التّراث الغذائيّ التونسيّ انطلاقًا من فرضيّة التّرابط بين منظومات الطّعام التّقليديّة ومطمح السّيادة الغذائيّة في السّياق العالميّ وفي سياق الدّول التي تعاني من ندرة المياه على وجه الخصوص16. ومن ذلك أنّه لسائل أن يتساءل عن تخلّي المجتمع التّونسي عن “الخبّيزة” و”النّخّالة” و”البسيسة” وتراث “العولة” وغيرها من الأكلات والممارسات التي كانت سائدة في تونس قبل هيمنة الصّناعات التّحويليّة المملوكة أو المحميّة من الدّولة على السّوق الدّاخليّة17.
المصادر:

  1. شفيق بن روين رئيس المرصد التّونسي للاقتصاد، ورد في مقال “أليكا – تونس: المعادلة الصّعبة بين تجارة المنتجات الفلاحيّة والأمن الغذائي
  2.  ALECA : réponses européennes aux questions tunisiennes
  3. The Cost of Compliance with SPS standards for Moroccan Exports : A Case Study
  4. تونس: رجال الأعمال يطالبون بمهلة قبل اتفاق “الأليكا”
  5. حول أهمّية استقلاليّة أعضاء التّعاونيّات والتّشريع التّعاوني في نجاح الفلاحة التعاونيّة في السّياق الهولندي انظر ورقة بعنوان “التعاونات الفلاحية في هولندا: عوامل مفاتيح النجاح“.
  6. “تونس توشك أن تفوّت تمامًا من قدرتها على إنتاج ما يسميه الباحثون بـ”المواد الغذائية الإستراتيجية” على أراضيها ومن بين ذلك الحبوب بالطبع”. انظر.
  7. هل تهدّد الأليكا استقلال تونس؟”، سليمان شعباني.
  8. Financial competitiveness of organic agriculture on a global scale, David W.Crowder and John P.Reganold 
  9. مدير العام لبنك الجينات استرجعنا 6 الاف صنف من البذور المنهوبة بالخارج.
  10. المعاهدة الدّولية للتنوّع البيولوجي لسنة 1992.
  11. نتيجة ذلك غزت الزياتين كافة البلاد“.
  12.  اندثار البذور المحلية يهدد زراعة تونس
  13.  FOOD SECURITY AND NUTRITION SECURITY – WHAT IS THE PROBLEM AND WHAT IS THE DIFFERENCE FROM 1 APRIL TO 15 MAY 2009.
  14. السمنة: جزاء الوجبات السريعة في تونس (Obésité : la rançon de la malbouffe en Tunisie).
  15. الزراعة الحضرية، ماذا ولماذا؟ (Urban agriculture: what and why).
  16. حول دور منظومات التّغذية التّقليديّة في الأمن الغذائي مع تركيز على المناطق الجافّة في كينيا انظر ورقة بعنوان “المحاصيل الغذائية التقليدية ودورها في الغذاء والأمن الغذائي في كينيا” (Traditional Food Crops and Their Role in Food and Nutritional Security in Kenya)
  17. بخصوص التقليد الغذائي والخضروات المُهملة على وجه التّحديد، انظر Potential of underutilized traditional vegetables and legume crops to contribute to food and nutrition security, income and more sustainable production systems, Andreas W.Ebert in Sustainability
Exit mobile version