فتحي الشوك
هي امراة ناجحة، مثقّفة حتّى النّخاع، صاحبة أعمال تضخّم رصيدها بالأصفار، عرفت المدن الرّاقية والنزل الفاخرة وتذوّقت من ملذّات الحياة ما أصابها بالتّخمة وما جعلها تبحث عن بعض المغامرات كسرا للرّوتين.
دوما ما تكون مشغولة جدّا لتقضي يومها بين زيارة لمكتبها في المصنع وتفقّد لبوتيكاتها المنتشرة في الاحياء الرّاقية وموعدها اليومي مع أخصّائي التجميل في انتظار ما ستكمل به يومها حسب ما يعلمها به سكريتيرها الخاص، لقاء تلفزي، منتدى لاصحاب الاعمال أو ملتقى ثقافي أو اجتماع سياسي أو التقاء دوري بمثيلاتها في ناديهنّ الخاصّ في نطاق نشاطها النّسوي يتبادلن فيه الحديث حول حقوق المرأة وقانون المساواة في الميراث وكيف يمكن ان ينقذن بلدا يرون أنّه اصطدم بحائط منذ ثورة “البرويطة” الملعونة!
هي احداهنّ ممّن ترونهنّ في الشّاشات وتفوح بعطورهنّ الباريسية أجواء تلك الاجتماعات، هنّ تلك الحداثويات اللّامعات الملمّعات، المدهونات بطبقات من المصبوغات، المنتفخات النّهود والشّفاه والمقصّرات الكاشفات عن سيقان مرمرية، هنّ المتهندمات من لا يضعن على أجسادهنّ سوى آخر ما صدر في دور العرض والأزياء، ولا تعرف ثغورهنّ سوى ما يشير به طبيب التغذية و التخسيس، هنّ العصيّات على التحرّش بهنّ في الباصات ذوات الايادي النّاعمة والأصابع الرّقيقة والأظافر المطلية باجود المصبوغات.
هي احداهنّ، قد يكنّ عشرات او بالكاد مئات، هنّ صفوة القوم وهنّ المثقّفات والمستنيرات والسّياسيات والسّفيرات والوزيرات والنّاشطات الحقوقيات.
هي راكمت النجاحات ولم تتعرّض في حياتها لمشاكل أو صعوبات، ما يقلقها هذه الأيًام فقط صديقها الًذي تكبره بعقدين والًذي لاحظت فيه عوارض البرود رغم ما تغدقه عليه من هدايا وعطاءات، وابنها من زوجها المتوفّي الّذي بدأت تبدو عليه علامات التعاطي وانحرافا في الميولات وقطّتها الّتي يتساقط شعرها برغم كلّ نصائح طبيبها البيطري وما كتبه من وصفات.
هي باسم مزلزل يفتح الأبواب كما في افتح يا سمسم.
هنّ بلا اسم ومجرّد ارقام في دفاتر التسجيلات، أغلبهنّ كادحات، عاملات في الحقول أو مصانع التحويلات، وجوههنّ لفحته أشعًة الشًمس الحارقة لتبان تضاريسه وتشتدّ سمرته ليتّخذ لون اديم الأرض الّتي يمشين عليها ويعملنا فوقها حتّى يردمنا تحتها.
هنّ كثيرات والكثير منهنّ يعملن منذ شروق الشمس حتّى غروبها نيابة عن أزواج منتشرين في المقاهي أو “الحوانيت” أو الحانات.
هنّ يقمن باكرا فيعددن طعام ابنائهن وازواجهن الّذين في الغالب ما تجدهم منغمسين في نوم عميق بعد سهر ليل طويل، ويجهّزن من لم ينقطع عن دراسته بعد على أمل ان يجدن لهنً عونا على حياة لم تظهر لهنّ سوى وجهها العبوس المكفهرّ، ليخرجن على عجل ويمتطين احدى الشاحنات التي تستعمل أيضا لنقل المواشي ليستقبلن يومهنّ بالعمل.
البعض منهنّ يعملن في حقول أغراب مع أنّ لهنّ نصيب في حقل حرمن منه بتسلّط أحد الاخوة الذّكور وكثيرات سلّمن بذلك تحت تأثير التقليد والموروث.
هنّ لا يتحدّثن كثيرا ولا يفهمن كثيرا ممّا يقال في الشًاشات أو في المهرجانات الخطابية الّتي تقام بمناسبة الانتخابات حينما يفد القرية احد متساكني الكوكب الآخر أو إحداهنّ ليرسم أو ترسم لهنً جنّات وأجمل لوحات محمّلا أو محمّلة بوعود وبعض الكرتونات.
هنّ الكادحات العاملات، بدت فيهنّ أثر السّنين حتّى تخالهنّ في الستّين وبعضهنّ لم يتجاوزن الثّلاثين.
هنّ يحشرن ككلّ يوم في صندوق خلفي لشاحنة كما في علبة السردين ليخضن رحلة الموت ابتغاء حياة شحيحة ومتمنّعة.
بعضهنّ، يقولون عشرة، اثنا عشر، خمسة عشر أو عشرين، ليس مهمّا فهي ليست سوى أرقام تحذف أو تضاف من سجلّات النّاخبين، امتطين شاحنة الموت كما يمتطي الشباب قوارب الموت ليستقبلن مصيرهنً المحتوم.
لتطلّ هي من على منابرهم لتدافع عن هنً، مذكّرة بمكتسبات المراة ومؤكّدة على الاصرار في السير قدما نحو استكمال مسيرة تحرًرها ولن يكون ذلك الا بتمرير قانون المساواة في الارث العظيم.
رحم الله شهيدات الوطن البائس وضحايا النّظام المفسد الفاسد.