أحداث عنف في أعرق كلية آداب في تونس "الساكت عن الحق حيوان أخرس"
عبد السلام الككلي
قام بعض طلبة كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة وهي اكبر واعرق كلية آداب في تونس يوم امس الجمعة 26 أفريل بتعطيل ندوة علمية حول “الإسلام السياسي” عقب احتجاجات حاولوا خلالها “طرد” قياديين في حركة النهضة، ودعوا إلى عدم “تسييس” الجامعات التونسية، معتبرين أن الحريات الأكاديمية باتت “مهددة” في البلاد.
واضطر القائمون على ندوة “الإسلام السياسي في تونس بين المرجعية الإخوانية والخصوصية التونسية” إلى إلغائها، بعد قيام عدد من الطلاب المحسوبين على اليسار باحتجاجات رفعوا خلالها شعار “ديغاج” (ارحل) ضد القياديين في حركة النهضة، علي العريّض وعبد الحميد الجلاصي، وهو ما أثار فوضى كبيرة داخل القاعة، انتهى برحيل جميع الضيوف وإلغاء الندوة العلمية.
وبرر عميد الكلية، عبد السلام العيساوي ما حدث بقوله إنه لم تتم دعوة العريض والجلاصي إلى الندوة، فيما قال مروان بن جدو أحد الطلبة المحتجين إنهم طلبوهما بالمغادرة “تاكيدا لمبدأ تحييد الفضاء الجامعي عن التجاذبات السياسية”.
كيف ننظر الى الواقعة ؟
كيف ننظر جميعا إلى ما وقع بالأمس في كلية الآداب بمنوبة ؟ ..باي عين نرى تلك الصور الهمجية التي تناقلتها وسائل الإعلام المحلية و الدولية ؟ باي مقياس نحكم على بيان مجموعة من النقابات الأساسية في الكلية والتي تقف بلا تمحيص ولا رصانة مع المعتدين بتعلة الدفاع عن استقلالية الكلية بل ما هو اكثر فداحة هو أن الكاتبة العامة للنقابة الأساسية للأساتذة الباحثين في كلية الآداب بمنوبة هي نفسها عضو في وحدة البحث المهتمة بالظاهرة الدينية في تونس و التي يشرف عليها الأستاذ محمد بالطيب وهو رئيس قسم سابق سابق بالكلية
ولقد قام مشروع البحث في وحدة الظاهرة الدينية في تونس من خلال هذه الوحدة على دراسة الظاهرة الدينية في تونس في نطاق مقاربة متعددة الاختصاصات (علم الاجتماع، علم النفس، الأنثروبولوجيا، العلوم السياسية والقانونية…)
- وكذلك وصل الظاهرة الدينية بجذورها التاريخية مع مقاربتها ميدانيا للوقوف على العوامل النفسية والاجتماعية المؤثرة فيها.
- كل ذلك مع الغوص في البنى الفكرية لمختلف الحساسيات الدينية وعلاقاتها بالآخر وذلك بتحليل عميق لخطاباتها ولقد سبق للوحدة ان نشرت عديد المؤلفات التي تتضمن أعمال ندواتها الثرية.
ان الهدف العام من وحدة البحث هذه هي اعتماد منهجية علمية لمزيد فهم الظاهرة الدينية في تونس في أظهر خصوصياتها.
اذا كانت هذه هي أهداف وحدة البحث فكيف تبرر نقابة جامعيين يا للغرابة بشكل صريح ما قام به المعتدون. ماذا نستخلص من تصريحات عميد الكلية نفسه الذي يقول بكامل الثقة والاطمئنان ان فلانا او فلتانا لم يقع دعوته ومتى كانت الندوات العلمية حفلات أعراس أو ختان يدعى لها زيد او لا يدعي لها عمرو.
فلستحضر قيمنا
كم نحن في حاجة إلى استحضار تلك المبادئ التي استمات الجامعيون بفرضها على ارض الواقع وفي التشريعات تجسيدا لمبدا الحرية ..ومن أكثر من الجامعي الذي تقوم حياته ومهنته على التفكير الحر جدارة بالدفاع المستميت عن الحرية ؟
فلنتذكر…
ينص دستور 27 جانفي 2014 في فصله 33 على أن «الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي مضمونة » وذلك في باب الحقوق والحريات. كان ذلك نتيجة نضال مستميت خاضه الجامعيون من أجل دسترة حق الجامعي في أن يمارس التدريس والبحث والنشر والتعبير بكامل الحرية كما خاض المثقفون في تونس معركة حاسمة من اجل إقرار الدستور التونسي ما بعد الثورة بمبدأ حرية المعتقد والضمير وذلك في الفصل السادس منه.
ومهما يكن من أمر هذا الفصل وتناقضاته بين كفالة الدولة لحرية المعتقد الضمير وحمايتها للمقدسات في نفس الوقت فإنّ دسترة الحرية الأكاديمية و « حرّيّة المعتقد والضمير » في المثال التونسي يُعتبر مكسبا كبيرا. غير أن المسالة ليست دستورية فقط اذ انه من الواجب تنزيل هذه المبادئ على مستوى النصوص القانونية ولكن أيضا على مستوى التشريعات الخاصة في سبيل إشاعة مبدأ الحصانة الأكاديمية في حدود البحث العلمي ونشر نتائجه ومخرجاته والعمل على إقرارها في القوانين الأساسية والمواثيق الأكاديمية. مع رفع كافة التضييقات المسلطة على الأكاديميين ووضع حد للانتهاكات الخطيرة التي يتعرض لها المجتمع الأكاديمي والذي قد يكون في نظرنا مهددا في المستقبل في ظل الفوضى التي نعيشها. غير إن الأمر يحتاج إلى ابعد من التشريعات أي إلى إشاعة مناخ الحرية والفكر النقدي والقبول بالاختلاف ونبذ العنف سواء في الأسرة أو في المؤسسات التربوية من خلال المناهج التعليمية أوفي البيئة الاجتماعية عموما… لكننا لا ننسى أخيرا انه من واجب الجامعي أيضا الا يكيل بمكيالين والا يكون هو نفسه أحيانا متورطا في التهييج وإشاعة العنف وهو ما نلاحظه بلا شك في بيان نقابيي كلية أداب منوبة.. لا نريد هنا ان نحمل المسؤولية بشكل صريح وواضح لهذا او ذاك ولكن تنتابنا كثير من الشكوك في سياق ملتبس.
فقد علمنا ان العميد امتنع عن تقديم كلمة افتتاحية بمناسبة الندوة وهو امر جرت عليه العادة علميا وإداريا وأخلاقيا كما علمنا انه تعذر تصوير الندوة للتوثيق كما درجت عليه العادة أيضا لان عطبا أصاب آلات التسجيل (يا لغرابة المصادفة) ولقد اتضح لنا أيضا من خلال بيان رئيس وحدة البحث السيد محمد بالطيب الذي نشرناه في إسطرلاب أن السيد العميد كان على علم بكل تفاصيل الندوة كما كانت الجامعة والوزارة على علم أيضا بها منذ شهر مارس الماضي وان السيد العميد لم يبد أي اعتراض على موضوعها او المشاركين فيها (هذا اذا كان له حق الاعتراض أصلا وهو موضوع يحتاج إلى مقال خاص في صلة بصلاحيات وحدات البحث واستقلاليتها تجاه المجالس العلمية ومؤسسة العمادة وبقية المؤسسات الإدارية المشرفة) ومعطيات أخرى ربما سنعود اليها في مقال اخر اذا توفرت لنا معلومات دقيقة عنها حتى لا نتجنى على أحد…
في الأخير الموضوع خطير وهو يحتاج إلى تحقيق جدي لأنه لا يمثل فقط اعتداء على الحرية بل هو اعتداء جسدي صريح على موطن تونسي جاء لحضور ندوة فكرية تهمه و منعه من ذلك امر لا يبرره أي شيء ولا أي مقصد. واذا ما تساهلنا مع هذا العنف فلن يكون لأي موقف نتخذه في المستقبل في حوادث أخرى مشابهة أي معنى…
فحذار إن الساكت عن الحق حيوان أخرس