الماكرون

منجي الفرحاني
بالأمس ماتت #هويدة واليوم إثنى عشر هويدة والجرح واحد، أهدي هذا النصّ الذي كتبته عن #هويدة_الجاجّي إلى أرواح ضحايا اليوم من المفقّرات المهمّشات الزواليّات الزكيّة…
أفقت مذعورا على صفّارات الإنذار لأوّل مرّة في أفق المدينة.. أهي الحرب أم نفخ في الصّور أم ماذا يا ربّي؟!
بحثت على كوموند التلفاز في كلّ مكان فلم أجده.. جنّ جنوني عندما اكتشفت بعد جهد أنّني في الحقيقة لا أملك تلفازا..
أين هاتفي الغبيّ؟
جفّ حلقي وأنا أبحث عنه في كلّ مكان في بيتي.. فتحت الثلاّجة لأبحث عن قارورة ماء فوجدت الهاتف هناك متّكئا على قطعة جبن..
فتحت صفحتي على الفايسبوك ففُتح لي رابط أوريدو يأمرني بدفع الفاتورة.. فتحت الحاسوب فوجدته يطلب منّي صبر أيّوب زمن التّحيين.. قلت أهاتف صاحبة العيون العربيّة العسليّة أسألها إن كانت رأت الشّمس قد أشرقت من مغربها..
سمعتها تبكي بحرقة ولا تقوى على الكلام.. لابدّ أن أدركها..
بحثت عن سروالي فوجدته ولكّنّني لمّا وضعت فيه قدمي مزّقته.. رميته وخرجت في بيجامتي إلى الشّارع..
هرج ومرج والقوم يموجون في بعض.. الأعلام منكّسة والتّكبير يتعالى من كلّ الصّوامع.. قرآن على القنوات.. رئيس الدّولة يعلن الحداد إلى وقت غير مسمّى..
سألت رجلا وسيما عليه ملامح النّمط يبكي بحرقة إن كان “مُشخلعنا” قد مات.. انقطع عن البكاء وأجابني: ماكش تشوف في سيادتو على المباشر قدّامك؟ ملاّ كوارث! ثمّ عاد إلى سالف نواحه..
بكى الرّئيس بفرنسيّة فيها غنّة باريسيّة ثم بالعربيّة القّحّة ثمّ بغنّة البَلْديّة ثمّ بالبورقيبيّة قبل أن يختمها بمثل شعبيّ وآية:
“وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الحقّ كَانَ زَهُوقًا”..
رأيت الغنّوشي في مونبليزير يجري دون سبحة، تسبقه دموعه وهو يكبّر ويستغفر ويلعن السّياسة ويفتي بحقّ الفقراء في الجنّة.. رأيت محرزيّة تنتف شعرها من تحت الحجاب وتجري وتحاول أن تدرك لطفي زيتون الذي يبكي ويهدّد بكشف قائمة سوداء جديدة..
رأيت سنطوحة تشقّ جيبها وتلطم ولطفي العماري يمتطي نفقا ويندب خدّيه بأظافر كمال لطيّف.. رأيت منجي الرّحوي يحلق شلاغم حمّة الهمّامي ويلقّنه أغنية في ما يشبه النّواح عن البورجوازيّة المتعفّنة ثمّ يشربان الشامبانيا على نخب الوطن، كميتهم كافيار..
رأيت ياسين العيّاري على أحد القنوات يبكي باللّغة الألمانيّة..
سمعت وزير الداخليّة يهدّد نائحا المدوّنين والصحفيّين بالسّجن في حال المبالغة في النّواح..
حتّى صديقي البهلول استرجع عقله إلى حين والتحم بالجماهير وهو يبكي بكلّ ما أوتي من جنون..
كلّ القنوات التلفزيّة تنقل شعبا من بنزرت إلى بنقردان يبكي بحرقة..
رأيت بشرى بالحاج حميدة وجماعتها من النّساء الديمقراطيّات يشعلن الشّمع أمام المسرح البلديّ نهارا ويبكين..
هزتّني هذه المشاهد أنا الآخر فبكيت مع شعبي…
يا ربّي ماذا يجري؟
من هي تلك الفتاة الفقيرة المهمشّة على كلّ القنوات والصّحف والمواقع والألسنة..
هل أنا في حلم… لا لست أحلم.. سألت سيّدة تبكي غير بعيد عنّي فقالت: لست تحلم.. خرجنا جميعا من أجل عينيها..
لا للظّلم.. لا للتّهميش.. لا للتّفقير.. لا للقهر..
يا اللّه خرج شعبي الرّائع من أجل هُويدة؟
إنّها #هُويدة_الحاجّي.. فتاة الثمانية عشر ربيعا، يتيمة الأب التي سقطت من شاحنة خفيفة وهي في طريقها من حاسي الفريد القصرين إلى قفصة لتجني الزّيتون في عطلتها وتساعد أمّها على مكر الزّمان..
لقد ماتت المسكينة.. تكسّر رأسها على إسفلت واقعنا الرّديء ابن الفعلة.. ولكن الحمد للّه تحرّكت من أجلها الضّمائر النّائمة وأحسّ المستكرشون والسّيستام الرّجيم والسّاسة وكلّ فئات الشّعب بذنبهم فبكوا حالهم قبل حالها.. محلاكم يا توانسة.. محلاكم يا توانسة.. محلاكم…
– محلاهم؟!
ثمّ ضحك ساخرا وأردف:
– طزّ.. شعب طحّان إلاّ من رحم ربّي..
رفعت رأسي من على قهوتي فوجدتّ صاحب العمارة على رأسي يسألني أجرة الشّهر الجديد..
– تفرّج على ولاد بلادك كيفاش يبوسو في ماكرون في خصّة باردو بعدما سجد له نوّاب الهانة ولا رجل فيهم سأله عن جدودنا المقاومين شكون قتلهم.. خلّصني وارجع احلم صاحبي.. ثمّ التفت إلى النّادل وعلّق:
– فنّان مسكين.. يحلم بحقّ هُويدة في بلاد ليهود.. وما تفهمنيش بالغالط.. ماعنديش مشكل مع دين اليهود.. مشكلتي مع “بلاد اليهود” وأنت اربط حتّى ببار حديد..
ثمّ غادر المقهى بعد أن دفعت له الكراء..
وجدّتني في وضع “أنا وين سي علاء؟”..
ترحّمت على روح هُويدة وغادرت المقهى وسط تصفيق البرلمانيّين على خطاب ماكرون الذي جاء يستنزف ما تبقّى من دمائنا برعاية طحّانة بلاده من بني جلدتنا.. هّويدة قتل الماكرون حلمها كما قتل ماكرون أجدادها…
على الرّصيف رأيت ظلّي يلتحم بظلّ بُنيّتي هُويدة.. رفعنا وجهينا إلى السّماء وصرخنا: مالنا غيرك يا اللّه…
 

Exit mobile version