كلية الآداب بمنّوبة تهاجمها غربان الجهل والعمى
نور الدين الغيلوفي
بنات آوى يخلو لها المكان فتبسط عليه توحّشها وتجعل منه طللا مهجورا لا يغري شاعرا بوصف.. كأن لم يمرّ بها أدب ولا قرأت، يوما، شعرا لشاعر.. ولا سمعت لمترنّم نغما.. ولا فهمت لكاتب فكرة.. نباتات نكد وزواحف لا تلد.. وحشرات لم تغتذِ على غير السموم..
هؤلاء الهمج هم النسخة الباقية من يسار عنيف عفِن ينتمي إلى عهد قديم صار باليا.. لا يحترمون قديما فيصونونه ولا يعرفون جديدا فيأتونه.. كأنهم من موصوفات المتنبّي الأنجاس المناكيد..
وما فعله جرادهم الشارد وأتته حشرات ما تبقّى من عنفهم الثوريّ من مولودات ما بعد سقوط جدار برلين لم يكن بدعا.. فهؤلاء أخلافٌ سَلَفُهم من بواقي الأجلاف.. كانت لهم ذات يوم سطوة في كلية الآداب.. زمن السواطير والسلاسل والفؤوس.. والمطارق التي تقطر دما والمناجل التي لا حرفة لها غير جزّ الرؤوس.. تاريخهم يراوح مكانه ويدور على نفسه حتّى تنساه الحركة وتتركه الحياة ويتبرأ منه التقدّم…
ما فعلته بقايا الهمج باقتحامها لندوة “الإسلام السياسيّ” المنعقدة بكلية الآداب يوم 26 أفريل 2019 وتقطيعها للافتات واعتدائها على المحاضرين والضيوف بسبب حضور المهندسَيْن علي العريض وعبد الحميد الجلاصي هو سلوك غريزي شبيه بذاك الذي أتاه أسلافهم في مجزرة منّوبة الشهيرة سنة 1982.. لقد أرضعوهم العنف فلم ينتجوا غير العفَن.. يتوارثونه جاهلا عن جاهل..
أعمار هؤلاء الرعاع قضّاها علي العريّض بلباس الإعدام لم يحنِ هامتَه جبروتُ خالقهم وربّ عذرتهم.. ومثيلات تلك الأعمار أمضاها عبد الحميد الجلاصي يجدل أحلامه لبنته الوحيدة غادرها في بطن أمها إلى السجن ولم يتسنّ له حضنها إلّا وقد صارت في قامات هؤلاء الأوباش وأعمارهم…
•••
لم تنس حفنة اليسار العنيف أسلافا وأخلافا سحب البساط من تحتها من قبل الطلبة الإسلاميين يوم فازوا بمجلس الكلية العلميّ بداية من سنة 1985 أمام قبائلهم التي لا تحصى من وطنيين لا يعترفون بوطن وديمقراطيين لا يفهمون ديمقراطية واشتراكيين لا يشاركون أحدا غباءَهم وباحثين عن عدالة لم يعدلوا في شيء أعمارَهم.. وتقدّميين لم يعبروا عتبة القرن التاسع عشر في نسخة مترجَمة رديئة…
وقتها كانت قبائل اليسار المتصارعة غيلانا تسرح بمفردها وتصرخ فلا يُسمع غير صوتها والصدى… هناك في الأنحاء… وحده العنف الثوري كان يملك حقّ القول وحقّ الردّ… ولا ردّ ولا رادّ… أيامئذ كان الطلبة الإسلاميون يتدرّبون على الحضور بالجامعة بخلفياتهم الدينية التقليدية التي يرفضها اليسار جملة وتفصيلا.. ومنذ ظهور الإسلاميين بالجامعة غيّر اليسار أولوياتهم فصار صراعهم ضدّ الظلامية الدينية ونسوا مقاومة الاستبداد والظلم والاستغلال وفرضوا على البلاد صراعا هوويا حتّى انتهت بهم عبقريتهم إلى وضع نمط يتبنّونه يتّهمون كل مخالف لهم بتهديده.. كما لو أنّهم هم القاعدة وغيرهم الاستثناء.
•••
أيام المجزرة المروّعة كنا، بعدُ، على مقاعد الدرس الثانوي… لم نزل تلاميذ نرنو بعين اللهفة الكبرى إلى مقاعد درس جامعيّ يفيض علمًا وحرّية… بلغَنَا وقتها بطرائق الوصل القديمة أنّ طلبة اليسار دبّروا بليلهم البهيم غدرا… كادوا للطلبة الإسلاميين كيدا وعاثوا في الكلية فسادا بمباركة من أبيهم البيولوجيّ المجاهد الأكبر وقد أخلى لهم الساحة يفعلون ما يؤمرون، وجعل أصابعه في آذانه من صراخ المظلومين المغدورين حذر الفضيحة… لقد كان تدريبا على الجَلْدِ والذبح والسلخ لقوم سيصيرون من أعمدة وزارة الداخلية يوما يستكملون المهمّة… مهمّة الاستئصال المقدّس… قدمت فلولهم المطهّمة إلى كلّية الآداب… قدموا إليها من كلّ حدب ينسلون… يطلبون القضاء المبرم على طائر من غير جنس الغربان المستبدّة… أنجزوا عملهم الرهيب تحت أجنحة الظلام… وقبل أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر غادروا الكلية هربا خوفا كما تهرب الخفافيش متى داهم ظلمتَها الضياءُ…
•••
وبعد سنتين اثنتين دخلنا كلية الآداب ندرس في أكنافها ونعانق شوقا قديما سكننا إليها ونعاقر عشقا لها قبل الحلول بها قدوما من بلد البعد الجنوبي… خاض الطلبة انتخابات المجالس وقتها وخسرت قبائل المتوحّشين القدامى الجدد… وغادرهم الفوز إلى غير رجعة حتّى قيّضت لهم المهزلة بنَ علي مخلوع شعبنا بعد حين فاتخذهم له أعوانا وأعادهم إلى قديم سطوتهم وقد رضوا بأن يكونوا طوع يديه: جعلهم في يدٍ سياطا تلهب ظهور المعذّبين وفي يدٍ أخرى معاول لتجفيف الينابيع… لقد استعان بهم على إظماء البلاد والعباد…ومَطْرِ المصائب…
ناموا بين ذراعي الوحش دهرَه وجُعلت لهم البلاد مرتعا… فمنهم الأمن والخوف… ومنهم الفكر وأدلّته والثقافة وسدنتها ومنهم التربية وينابيع العرفان… صاروا هم البيان والتبيين يكتبون تحت حراسة سيدهم يتيمة الدهر وخريدة العصر… تونس الحداثة والأغنيات… تونس المنجَزات والمعجِزات… وصاروا هم الموصوف والصفة يعبر بهم سيّدُهم عجزه… يقولون ما لا يستطيع ويقبضون من الثمن الفتات راضين مرتضين… لسان حالهم يقول لعطايا محمودهم ممدوحهم: أمطري حيث شئت فبقاياك من نصيبي !
•••
وتحوّلت كلية الآداب بعد طهورها كهفا لصنع الشهادات المشتهاة… وبعد الأساطين الألى من حصون المعرفة الأصيلة: توفيق بكّار المعجب وعبد القادر المهيري شيخ العبارة ومحمد عبد السلام سيّد الشعر الجاهلي والقادر عليه… بعد عبد المسدي وعلوم اللسان… بعد هؤلاء وأضرابهم يرتقي المنصّة الأشباه والأشباح وتلبس الغيلان أقنعة العارفين وتتصدّى لصناعة المعرفة فنجد من أثرها ما يربك الأمنيات ويردّ البلاد إلى الحسرات… ويلعن الكلّ ما تُخرج الجامعة المانعة… وتفوح روائح العبث المعتّق والعته المنمّق: أستاذ ينجز بقلمه أطروحة طالبة! وثان يصير بما اكتسب رهين المقاولات… وثالث سال لعابه لجوائز أعراب النفط ففرّ لأجلها من المعرفة إلى التخييل في نصوص قد تصلح لدروس في التنمية اللغوية.. ورابع تلبّست به قصيدة عمر بن أبي ربيعة: ليت هندا أنجزتنا ما تعد ! وخامس.. وسادس… ثمّ ينهمر…
•••
هؤلاء الأوغاد من المعتدين على المهندسين لم يستفزّهم عميد لهم سابق كان عنوانا من عناوين التطبيع في البلاد ولا شغلهم الفساد المستشري ولا التجهيل المنهجيّ.. لم يلفتهم غير علي العريّض وعبد الحميد الجلاصي يرون فيهما عدويين وجوديين ونقيضين جوهريين يهاجمونهما في تحرّك غوغائيّ فاضح كأنّهم انفلتوا لتوّهم من وكر خفافيش أصابها العشا بنزق جعلها تخبط في جميع الأنحاء خبط عشواء.
•••
كلمة أخيرة لجماعة النهضة:
إذا مررتم بحيّ تعرفون شراسة كلابِه فاجعلوا في جيوبكم حجرا تلقمونها إيّاه..
الذباب لا يقتل ولكنه يثير القرف.. ذبّوه عن وجوهكم بأبسط الأشياء التي بأيديكم…