علي المسعودي
إنها طاحونة الشيء المعتاد !.
هذا الصباح لم أكن راغبا في فعل شيء. فقط تمنيت لو أني استطعت أن أنهض من فراشي لأفتح قارورة الغاز ثم أستمتع باشعال سيجارتي الأخيرة. بالطبع، هي مجرد أمنية، فأنا أجبن من أن أفعل ذلك. كما أنه ليست لدي ميول انتحارية بالوراثة.
ومع ذلك ثمة احساس مجنون بأن لهذا اليوم ما يميّزه !.
.. وأنا ألوك هذه الفكرة السوداوية من على الفراش، اكتشفت فجأة أنه لدي خيارات عدة أستطيع أن أختار بينها عدا الذهاب إلى العمل. كأن أستمرّ في النوم مثلا، أو الاستحمام مع الثامنة صباحا، عندما يبدأ الموظفون نوبة عملهم، أو اقتطاع تذكرة قطار السابعة دون أن أعرف وجهته.. كل ذلك كان من ضمن الامكانات المدهشة التي لم أفكر فيها من قبل.. ولكني لعنت كل الأبالسة في النهاية، وذهبت مثل كل يوم إلى العمل.. لا يمكن المغامرة بدخول مسالك ترابية غير مطروقة والحال أن طريقا معبدا يمتدّ أمامي ويدعوني إلى برّ الأمان !..
في الطريق، تبادلت مع جاري الذي يجرّ وراءه ابنه نحو المدرسة نظرة اللامعنى اياها، كما نفعل كل يوم.. مرّ حارس المعهد المجاور، فبادلته السلام ثم مازحته مزحة عابرة حول جارنا، وواصلت طريقي كما أفعل كل يوم.. ومن بعيد لمحت عامل البلدية تحت شجرة الكاليبتوس وهو ينظر للمارة في تكاسل، مثلما ألمحه كل يوم.. حتى وأنا أفتح باب المكتب، أخطأت مرتين في التعرف على المفتاح الصحيح كما أخطئ كل يوم..
ومع ذلك لم يغادر ذهني ذاك الاحساس المجنون بأن لهذا اليوم ما يميزه !.
•••
كنت أعرف أن إحساسي لا يخذلني !.
في المكتب، قدّمت لي إحداهن وردة على وشك الذبول وتمنت لي يوما طيبا.. وبعدها وُضِعت أمامي قهوة باردة مع بعض الأمنيات وعبارات الود.. مرّت هذه الحوادث الاستثنائية بلا معنى إلى أن جاءني صوت ابني على الهاتف متمنيا لي عمرا مديدا !..
إذن هو يوم الميلاد الذي قد نسيته !.
هو يوم مميز على كل حال !.
عدا ذلك، مرّ هذا اليوم خامل الذكر، ملعونا من قبل الجميع ممن دخلت الأتربة إلى خياشيمهم، ومؤخراتهم بفعل العواصف الرملية التي لم تهدأ حتى المساء !
ولكن الأيام الفيزيائية تقابلها أيضا أيام.. افتراضية !
ويومي الافتراضي كان حافلا بحق..
ما إن شحنت هاتفي، وفتحت صفحتي الافتراضية حتى انهالت عليّ رسائل التهنئة دفعة واحدة.. لم يكن هناك متسع من الوقت لأرد على أيّ واحدة منها، ولا متابعتها كلها.. فتركتها جميعا لحين عودتي في المساء..
كان كثير منها بداعي المجاملة، والبعض الآخر بدافع المحبّة.. وحتى الذين أعرفهم حق المعرفة تلاشوا، واختفوا وراء صور بروفايلاتهم السميكة.. ولم يعد لهم وجود محسوس !.
العالم الافتراضي هو تماما مثل العالم الميتافيزيقي، يظل يتسع، شيئا فشيئا، ويقضم من الواقع إلى أن يبتلعه كلّه.. وفي النهاية لا يمكنك الإمساك به.. هو مجرد وهم. قرصة نملة واحدة و يتبدّد كل الضباب !.
•••
كثيرا ما وضعت شكوكا حول تاريخ ميلادي.. فأنا أذكر أن لي أختين غير توأمين ويملكان نفس تاريخ الولادة !!.. ولهذا كنت أخشى أن أعطي هذه المناسبة ما لا تستحق.. وأنا لا أعرف حقا ما هو حظي في الأبراج، فتاريخ ولادتي هو على التخوم بين الحمل والثور !.. جربت أن أتابع حظي في كلا البرجين.. وأحيانا أضيف لهما ثالثا.. ولكني لا أجد متعة الواثق بحقائق التأريخ.. فنزعت عني شكوكي بأن انصرفت عن كل ذلك نهائيا..
كان عليّ أن أستفيد من وضعي الخاص.. ولكني لم أفعل للأسف..
ها أنا اليوم، أنهض، في يوم ميلادي، مع رغبة في الانتحار !.
وكان أحرى بمثلي أن يجعل من كل صباح ميلادا جديدا.. فقد يكون عيد ميلاده في كل يوم جديد !..
كل نفس ، كل هبّة ريح ونسيم ، هي ميلاد جديد ..
وأنا حزين.. لأنني لن أجد من يهنّئني في اليوم التالي، إلا عندما أفتح التلفاز، ويطل منه الزعيم العربي الهمام مباركا يومي الجديد، وانتصاراتي التي أجهلها… وتلك دائما أيام العرب !
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.