حتى لا تكون الديمقراطية مجرد ديكور
أحمد الغيلوفي
محمد الغنوشي الأول ومحمد الغنوشي الثاني وحمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة والصيد والشاهد ولا شيئ تغير في واقع الناس. لم يتغير شيىء لأننا صدقنا أن الثورة هي إنتخابات ودستور وتداول على الحكم. صدَقنا بأن هناك ثورة في العالم يمكن أن يُموَلها صندوق النقد الدولي. هل حدثت تنمية أو نهضة في أي قطر من أصقاع الأرض بدعم من صندوق النقد؟
ألم يكتب “جوزيف ستيقليتز”، المدير السابق للبنك الدولي ومستشار كلينتون للشؤون الإقتصادية، كتاب “الخيبة الكبرى”، وهو كتاب شكل فضيحة عالمية لأنه قال فيه بأن الدوائر المالية العالمية والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي لا يفرضون على العالم النامي إلاََ السياسات الإقتصادية التي ثبت بالتجربة وبالدليل القاطع أنها سياسات فاشلة: القروض والهبات والمديونية ورفع الدعم والترفيع في الأسعار. كيف يمكن أن نتداوى بالتي كانت هي الداء؟ لن يُفلح المهدي جمعة كما لم يفلح الجبالي وعلي العريض، وقبلهم جميعا بن علي، لأنهم جميعا يتحركون ويَفكرون من داخل نفس المنظومة الإقتصادية. المشكلة الحقيقية هي منوال التنمية السائد حتى الان، والحل هو إبداع منوال تنمية بديل عنه، أي طريقة لإنتاج الثروة إعتمادا على الموارد الذاتية ومراكمتها حتى تخلق مواطن شغل جديدة تراكم بدورها الثروة من أجل خلق مواطن شغل أخرى. إن أي “ثورة” لا تُغيَر منوال التنمية لا تعدو أن تكون “هيصة” أو “فزعة” وتتحول في الأخير إلى مسخرة وخيبة كبرى.
لماذا لم يُطرح هذا المشكل حتى الآن، لا من طرف النخبة السياسية ولا من طرف الإعلام؟
أولا: لأن هذا المشروع يعني إعلان تونس العصيان التام تجاه فرنسا والولايات المتحدة، وتخلصها من التبعية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وهو خطر لا يمكن أن تتسامح فيه الدوائر الإستعمارية خشية أن تنجح تونس في ذلك فتقوم الدول الإفريقية والآسياوية بالنسج على منوالها. لقد استطاعت البرازيل والأرجنتين والإكواتور والمكسيك وبوليفيا وفنزويلا والشيلي أن تنجح في هذه التجربة، وأصبحت مستقلة سياسيا وإقتصاديا عن الولايات المتحدة، لذلك إجتهد الإعلام الأوروبي منذ البداية في إقناعنا بأن “ثورة الياسمين” تنحصر في الإنتخابات وفي كتابة الدستور. هناك مُربع لا يجب أن تتجاوزه تونس: يجب أن تبقى ديمقراطية هشة، لا تموت ولا تحيا: يجب أن تبقى ضعيفة حتى تكون مخبرا لباقي شعوب المنطقة، مخبرا يُجرّب فيه التجويع والتطبيع، القروض مقابل التطبيع، الحماية مقابل التطبيع. لا يجب أن تصل أبدا إلى مرحلة التحرر والإنعتاق.
ثانيا: لا يمكن أن يطرح الإعلام التونسي مشكل منوال التنمية لأنه مرتبط بدوائر مالية محلية وأجنبية ليس من مصلحتها تغيير منوال التنمية السائد. كما أن أصحاب القنوات ومٌعدي البرامج والصحفيين هي نخبة أفرزتها البيروقراطية والرأسمال المحلي للدفاع عن مصالحها.
ثالثا: لا يمكن أن نتوقَع من نداء تونس أو حركة النهضة أن تتحدَث عن منوال تنمية بديل عمَا كان سائدا. نلاحظ غيابا تاما لهذه الكلمة “منوال التنمية” في خطاباتهم وفي كتاباتهم، وذلك لأن كلاهما حركة يمينية، تفكر من داخل النظام الإقتصادي والمالي العالمي السائد. كلاهما يعتبر أن مشكلة تونس الإقتصادية هي مشكلة تسيير وإدارة وليست مشكلة هيكلية تتعلَق بطبيعة المنوال الإقتصادي. نداء تونس حركة ليبرالية مكونة من نفس الدوائر التي كانت نافذة في زمن بن علي وهي من حدثت الثورة ضدها، أما حركة النهضة فهي حركة إصلاحية وليس لها أي تناول جدي للمسألة الإقتصادية. الفقرة التي يُعنونها السيد راشد الغنوشي بـ “الحقوق الإقتصادية” ضمن “الحريات العامة في الإسلام” لا تتعدى الوعظ والكلام المُرسل من نوع “الملك كله لله والإنسان مستخلف فيه” و “يتجه النموذج الإسلامي إلى توزيع الثروة على أكبر عدد ممكن على نحو يغدو الجميع مالكين” و “يُندد الإسلام بالترف والسرف والتبذير واكتناز المال واعتبره أساسا للبغي والكفر..” (ص 57/58 ط تونس 2011). أما كيف ننتج الثروة في القرن الواحد والعشرين، وكيف نراكمها وكيف نوزعها فذلك ما لا نجدهُ. ورغم أنه يشن هجوما على الديون والقروض والمساعدات من “دول الكفر” ويصفها بأنها “مذلة لكل نفس ذاقت طعم الإيمان” إلا أنه لم يقدم أي بديل عنها.
رابعا: إن أية محاولة لبناء منوال تنمية جديد سوف يواجه من العقول المُتكلَسة ومن الإعلام وأصحاب المصالح بالكثير من التشكيك والإستهجان، وسوف يوصف بالطوباوي والحالم والغير واقعي والفوضوي، كما أن القوى الإستعمارية سوف تعمل على خنقه في المهد. لذلك فإن هذا المشروع التحرري لا يحتاج فقط قوة ثورية حقيقية وعقول مبدعة وإنما يحتاج أيضا وعيا وتضحية وصبرا من قبل الشعب. إن الحالمون والطوباويون هم الذين ينتظرون الشغل “الآن” والكرامة “الآن”، أما المنافقون والكاذبون فهم الذين يعدون الشعب بذلك حالما يُنتخبون. أما الذين يحملون مشروعا تحرريا حقيقيا فعليهم التفكير في الشروط السياسية الداخلية لتحقيق ذلك، وفي التحالفات الإقليمية الضرورية من أجل نهضة شاملة، وهذا لا يكون، في اعتقادي البسيط، إلا بكتلة تاريخية -داخليا- وبتكامل مغاربي.