عادل بن عبد الله
مهما بلغت درجة المراء أو الرغبة في الجدل، سيكون من الصعب على أي مدافع عن النخب الحاكمة والمعارضة أن ينكر وجود أزمة حقيقية تخترق المجتمع بمختلف جوانبه. فكل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تبعث على الفزع، أمّا حالة الانسداد السياسي فقد تعمقت بحرب شقوق “نداء تونس” وقضية “التنظيم السري” المزعوم لحركة النهضة، بالإضافة إلى الصراع المفتوح بين رئاستي الجمهورية والحكومة، والتعطيل المتعمد لإرساء المحكمة الدستورية، التعامل السلبي مع التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة، وتحول مشروع مقاومة الفساد إلى مجرد أضحوكة أمام تغلغل المافيات في أجهزة الدولة، وفي أغلب النقابات والأحزاب.
كما يبدو من عمليات سبر الآراء أن النخبة الحاكمة، في ظل تشرذم قوى المعارضة المواطنية الاجتماعية، ستعيد إنتاج نفسها وستظل مهيمنة على السلطة، سواء بمنطق “التوافق” (بين الإسلاميين والعلمانيين) أو بمنطق إقصاء النهضة وتكوين جبهة “حداثية”؛ هي في محصولها الأخير مجرد إعادة إنتاج لمنطق النظام القديم في لحظاته الأكثر استبدادية ودموية.
وفي ظل هذا المشهد السوداوي الذي نجح في ترذيل العمل السياسي وفي تغذية نوازع الانهزامية أو الصدامية عند شريحة هامة من التونسيين، يبدو أن ظهور بديل سياسي قد أصبح ضرورة ملحة لمواجهة الحركة الانحدارية؛ التي تعكسها الأرقام المتعلقة بالمقدرة الشرائية -وبالحالة الأمنية- وبالوضعية المزرية التي تعيشها أغلب القطاعات المهنية. فرغم الشرعية الانتخابية والديكور الديمقراطي، تحولت البنية السلطوية (في ظل سياسة التوافق بين حركة النهضة وورثة المنظومة القديمة، وفي ظل إصرار الجبهة الشعبية على خطاب الاستئصال والصراع الأيديولوجي) إلى مجرد واجهة لتمرير الإملاءات الخارجية، بما فيها تلك الإملاءات الاقتصادية والثقافية التي لم يتجرّأ المخلوع ذاته على تمريرها. كما تحولت تلك البنية السلطوية إلى مجرد واجهة لحماية بعض المصالح الجهوية والطبقية التي لا علاقة لها باستحقاقات الثورة، بل لا علاقة لها حتى بأي أفق إصلاحي حقيقي.
بعد أن حسم الدستور أمر المشترك الوطني بين عموم التونسيين، تبدو كل الصراعات الهوياتية (وكل المبادرات التشريعية القائمة على مصادمة الوعي الجمعي) حليفا موضوعيا للممسكين بالسلطة والثروة، أولئك المستفيدين من حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية، الراغبين في تكريس التخلف والتبعية والفساد الممأسس وشرعنة الفشل في الأداء؛ انطلاقا من استعارات “الوحدة الوطنية” و”النموذج المجتمعي” و”استمرارية الدولة” و”المصلحة العليا” و”التنازلات المؤلمة”.. الخ.. الخ. ومن هذا المنظور، لا يمكن لمشروع “اليسار الكبير” (أو الجبهة اليسارية الوسطية) إلا أن يكون تنويعا مخاتلا في استراتيجيات إعادة إنتاج المنظومة السابقة أو التحالف مع رموزها، بحثا عن تموقع أفضل داخل المنظومة ذاتها. فهذا المشروع لا يطرح على نفسه بناء “كتلة تاريخية” (بالمعنى الغارمشي للكلمة) تتجاوز الاصطفافات الهوياتية القاتلة، كما لا يطرح على نفسه مخاطبة المحافظين أو المتدينين، فهو ينحصر أساسا في متلقّ “نموذجي” لن يخرج (مهما كانت الادعاءات) من القاعدة الانتخابية للعائلة الشيو- تجمعية.
لكنّ عطالة المشروع اليساري “الكبير” وطابعه اللاوظيفي من منظور الجمهورية الثانية، لا يعني عدم أهمية المحاور الاقتصادية والاجتماعية التي يدافع عنها، بل يعني فقط أنّ حامل المشروع (بخلفيته الأيديولوجية التي لم تفارق منطق التناقض الرئيسي مع الإسلاميين والتناقض الثانوي مع البرجوازية) لن يكون إلا عاملا من عوامل تجذير الأزمة، وليس عاملا من عوامل تجاوزها. إنّ تونس تحتاج فعلا إلى بديل سياسي يُركز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ويواجه إملاءات الخارج ومافيات الداخل، ولكنه بديل يجب أن لا يتحرك من موقع هوياتي إقصائي.
ومهما كان موقفنا من تبريرات النهضة لتحالفها مع ورثة المنظومة السابقة بمخاوفها من المشروع الاستئصالي اليساري، ومن القوى الإقليمية والدولية المعادية للثورة التونسية، فإن أي بديل سياسي سيستهدفها انطلاقا من معطى أيديولوجي (أي كونها رجعية دينية مهددة للنمط المجتمعي)، سيجد نفسها يتقاطع موضوعيا مع القوى “الرجعية” الحداثية التي تُغذي الصراع الرمزي لحماية المصالح المادية للمركّب الجهوي- المالي- الأمني المهيمن على خيرات تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وهو ما يعني أن البديل السياسي يجب أن يطرح على نفسه مهمتين متلازمين: تحرير اليسار الثقافي من أولوية القضية الثقافية ومن دور الطابور الخامس، وتحرير النهضة من متلازمة استوكهولم ومن الميراث السياسي السلطاني الواعي منه واللاواعي.
إن البديل السياسي الذي تحتاجه تونس ليس “كتلة تاريخية”، وإن كان يتقاطع مع هذا المفهوم اليساري (فهو لا يواجه فاشية بل يواجهة ديمقراطية صورية ومنظومة حكم مافيوزية ذات واجهات حزبية)، وليس البديل أيضا “طريقا ثالثا” بالمعنى الذي يضبطه أنطوني غيدنز (giddens)، “أي أنه ليس محاولة لـ”تجاوز كل من الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة”، فهو أساسا طريق ثالث بين التوافق والاستئصال، وبين توافق يخدم المنظومة، واستئصال يزايد عليه في خدمتها. إنّ البدائل اليسارية (سواء في شكلها الجبهوي الحالي أو في أشكالها المأمولة) لم تغادر المربع الأيديولوجي الذي يضخم البعد الثقافي (التناقض مع النهضة ومع الهوية الجماعية) ويُهمش البعد الاقتصادي والاجتماعي (التناقض مع منظومة الحكم الموروثة من النظام السابق ومع من يكفلها في الخارج).
في هذه المرحلة، لا تحتاج تونس إلى “حزب كبير” يواجه النهضة أو يُعدل موازين “الضعف” بين الخصوم الأيديولوجيين، ولا تحتاج إلى يسار استئصالي يزيد في شرعنة سياسة التوافق اللاوطنية، بل هي تحتاج إلى “مشروع كبير” تكون غايته تفعيل فصول الدستور والدفاع عن المقهورين مهما كانت جهاتهم وأيديولوجياتهم.. مشروع لا ينفي الهويات الفردية أو الحزبية أو الأيديولوجية، بل يوجهها لخدمةً المشترك الوطني، وهو ما سيجعله تجاوزا جدليا للثنائيات البائسة التي حكمت العقل السياسي التونسي قبل الثورة وبعدها.
إن تونس تحتاج إلى مبادرة لتجميع كل القوى التي تُعرّف أنفسها بالتناقض مع التبعية والتخلف والفساد، لا بالتناقض مع النهضة أو مع الهوية أو مع الحداثة السياسية أو مع أي خصم إيديولوجي كائنا من كان. وهو حلم يتجاوز الكيانات الحزبية، وينفتح على المستقلين. أي إنه مشروع سياسي لتجميع كل أولئك الذين لا يعادون في اليسار إلا ارتداده عن الصراع الاقتصادي والاجتماعي وتضخيمه للصراعات الهوياتي، أولئك الذين لا يعادون في النهضة إلا توافقها السلبي مع ورثة المنظومة القديمة وخيانتها لانتظارات ناخبيها قبل غيرهم. إنه في النهاية بديل مواطني اجتماعي لا ينظر إلى لهجات الناس ولا جهاتهم ولا منظوماتهم السلوكية والعقدية، بل ينظر إلى موقعهم في عمليات إنتاج الثروة وتقاسم السلطة، ثم يحدد آليات استقطابهم أو مواجهتهم انطلاقا من أدوارهم المعرقلة أو المساعدة في بناء الجمهورية الثانية: جمهورية المواطنة الاجتماعية المتخلصة من أساطير “النمط المجتمعي” ومن سموم “التوافق”.