الشاهد يَجمع فيء حربٍ لم يخُضها

نور الدين العلوي
يوشك تونسيون كثر أن يستعيدوا حكاية العجوز التي ربت ذئبًا وأرضعته لبن شاتها فلمّا اشتد مخلبه بقر الشاة وأكل لحمها. اعتقد أن رئيس الدولة الذي يطيب له مزج خطبه بالشعر والحكمة القديمة يردد الآن بيت الشعر (بقرت شويهتي وفجعت قلبي وأنت لشاتنا ولد ربيب). فكلما رأى الشاهد رئيس حكومته يملأ السمع والبصر، تذكر أن قد ربّاه بيديه إذ أخرجه من مكتب مجهول بسفارة أجنبية إلى وزير للإدارة (الجماعات المحلية) ثم رئيساً للحكومة.
سيردد رئيس حركة النهضة البيت نفسه وهو يرى الشاهد يرتقي فوق طموحات رجل تنفيذي بلا أفق إلى رجل يضع نفسه في الكرسي الأعلى ليلقي الأوامر على الجميع ويقود البلد ويخرج الجميع من النافذة الصغيرة. لقد انطلق الفتى يشتغل لحسابه الخاص متخذًا الإدارة سلّمًا ووسيلة لطموحاته الشخصية مضحيًا بمن أوصله إلى مكانه الحالي، لكن لنتذكر بعض التفاصيل التاريخية القريبة ولننظر في أفق الشاهد وأفق رعاته السياسيين.
من أين جاء الشاهد؟
عندما رغب يوسف الشاهد بالفخر على التونسيين قال إن خاله حسيب بن عمار (وحسيب هذا سليل بيت ارستقراطي حضري من حضر تونس خدمت أسرته بايات تونس ودولة بورقيبة وإن كان هو تزعم المعارضة)، لكن يوسف الشاهد نسي أن يحدثنا عن تكوينه العلمي كخبير بذور مهجنة وعن عمله كمروّج لهذه البذور في تونس طبقًا لرغبة السفارة الأمريكية وشركات الأغذية التي تموّل السياسة في الولايات المتحدة.
لا شيء كان يؤهله ليقود البلد ولكنه يقوده الآن، فكيف تسرّب بين أصابع السياسيين الثوريين منهم والإصلاحيين ليصيروا من مسانديه ومن معارضيه فلا يلقي لهم بالًا ويمهد الطريق لنفسه بوسائل الدولة؟
كان الرئيس الباجي قد بدأ تأهيله في حكومة الحبيب الصيد 2015 فوضعه في قلب الماكينة السياسية (كتابة الدولة للجماعات المحلية)، أي في صلب وزارة الداخلية. وكانت تلك المرحلة مرحلة تكوين سياسي أكثر مما كانت مرحلة عمل. وفي لحظة قرّرها الباجي دون حاجة البلد تمت الإطاحة بحكومة الحبيب الصيد ووضع اسم الفتى الشاهد على الطاولة فلم يجد الباجي من يعارضه في ذلك وما كان لأحد أن يعارض غير حزب النهضة (بالنظر إلى الثقل البرلماني) ولكن النهضة لم تكن معنية سوى بالتخفي وراء أحدهم لتتنفس أو لترمم صفوفها أو لكي تتمتع بفتات السلطة دون تحمل كلفتها العالية. في كل الحالات صار الشاهد رئيس حكومة تونس حتى قرر الباجي أن يستبدله مرة أخرى في صيف 2018. لماذا جاء به ولماذا أراد استبداله؟ في كل الحالات قال الشاهد للباجي أنا لست جوربًا للاستبدال فبكي الباجي شويهته لقد بقرها الذئب، واستحال على ابن الباجي أن يرث طريقا سهلة للسلطة بعد أبيه.
الشاهد جمع أسلاب معركة التوريث
كان الباجي يقود معركة توريث السلطة في عائلته لشخصه أو لابنه أو لثقة من ثقاته وكانت خطوة تصعيد الشاهد الطفل الطيع خطوة ثانية بعد خطوة الصيد. كانت هذه الخطوة ستمر بدورها لولا أن انحاز لها اليسار التونسي ونقابته بما أرعب حزب النهضة من تشكل جبهة استئصالية ضده كما حصل في اعتصام الرحيل الذي أسقط حكومة الترويكا. في تلك اللحظة صار الشاهد منقذ النهضة من ضلال الباجي فوضعت مسألة الاستقرار الحكومي أولوية خاصة أن بديل الشاهد لم يكن واضحًا حتى عند الرئيس.
من هنا تسرّب الشاهد مقدمًا للنهضة ما تريد من الاستقرار، فحظي بإسنادها البرلماني بما أفقد البقية قدرتهم على إسقاطه بالبرلمان فتظاهروا بإسناده وذهب الشاهد أبعد فقسّم حزب النداء نصفين وعاد بنصفه إلى بيت طاعته. ولكن الاستقرار لم يعد مفيدًا للنهضة فقط بل للشاهد قبل ذلك. لذلك سارع بفرض موعد الانتخابات، أو بالأحرى قطع طريق تأجيلها، فوافق الرئيس على المواعيد ورممت الهيئة الانتخابية في وقت قياسي. لقد حوّل الشاهد الموعد الانتخابي إلى ورقة ضغط على الجميع ولم يبق لهم إلا التقدم إلى الصناديق ولم يعد أحد مشغولًا بعزله. وهم يرونه الآن يستعمل الدولة ومؤسساتها للدعاية الانتخابية لشخصه ولكنهم في ورطة بين إسقاطه أو منعه من الترشح. الشاهد موقنٌ ببقائه ولذلك سيجعله بقاء مكلفًا للجميع.
فشل النخب المعارضة سابقًا في الاتفاق على خارطة طريق تحوّل شعاراتها القديمة إلى بديل مؤسس يجعل الشاهد شاهدًا على عقم أطروحاتها وفشل وسائلها في استثمار الثورة التي أهدتها موقعًا يؤهلها فلم تحسن التصرف فيه بل خذلت الثورة.
لقد اختصمت الساحة السياسية المحترفة منذ ما قبل زمن بن علي فجمع آخر الواصلين أسلاب معاركهم. عرف الشاهد كيف يلعب على تناقضات الساحة السياسية ويخرج منها غانمًا وحيدًا، والآن يرى الغنوشي ربيبه يتجاوز ما رسم له من دور فيقول مع الباجي بيت الشعر إياه.
أين سيحمل الشاهد تونس؟
ليس للشاهد أي بديل سياسي واقتصادي لتونس. إنه منفذ خطة مطيع والخطة لم يضعها بنفسه وإنما أمليت عليه وقد وافق المملون على انضباطه التام فأطلقوا سراح القرض الذي ينتظره ليموّل الستة أشهر القادمة. لقد اطمأنوا له وسيدفعونه إلى سدة الحكم من أجل نفس البرنامج، فهو أسهل قيادًا من سياسي محترف. لكن، بقية الطبقة السياسية ماذا تفعل؟
حتى الموعد الانتخابي، ستروّج الطبقة السياسية خطابات عن فشل حكومة الشاهد (الجميع في تونس يسميه الفاشل) وكما في كل تاريخ السياسة في تونس يستسيغ الجمهور ويطرب للعن من في السلطة دون أن يطلب من اللاعنين بديلهم فخطاب النقد قائم بذاته ولا يحتاج بديلًا إلا وعودًا عامة بتجاوز الشاهد وفشله.
في الطبيعة التي تأبى الفراغ، لم تصر إدارة البلد مكسبًا خالصًا للمعارضة القديمة (بحجة شرعية المعارضة) بل أن إعلان انتماء الشاهد لآل بن عمار يعتبر نوعًا من الانتماء إلى شرعية المعارضة التاريخية بما لا يعطي لأحد حقًا أكثر منه.
ويمكن أن نقول أن الشاهد دخل المشهد من فشل النخب القديمة. وهو يعرف كما يعرفون أن حديث “السيادة قبل الزيادة” وهو شعار نقابي وأن شعارات الاستقلال وتأسيس الجمهورية الثانية لغو ومزايدة فلا أحد يملك بديل تحرر حقيقي.
يمكن للشاهد أن يتصرف على هواه ويقول لهم بعين وقحة، لو كنتم قادرين قبلي لفعلتم ولكنكم قوم تهرفون. سيستغل وسائل الدولة ليصل إلى مبتغاه وهو يوظف الإعلام بلا رقيب وقد انحاز له إعلام المنظومة بلا دعوة (فهو يملك الآن أن يعطي من جيب الحكومة). وكل الذين يتقززون من خطابه ومن سلوكه يعرفون أنه يعرف نقاط ضعفهم ويستغلها، وبإمكانه أن يسوّق نفسه في الخارج بشكل أفضل فهو على الأقل لم يدع الديمقراطية ويمجد في ذات الوقت حفتر والسيسي، هنيئًا للشاهد لحم شاة أرضعته ولم تجد راعيها.
نون بوست

Exit mobile version