بعض أسباب نفور الجماهير العربية من الفكر اليساري

محمد كشكار
مواطن العالم
هذه بعض أسباب نفور الجماهير العربية من الفكر اليساري.
يبدو لي أن هذا النفور الطاغي بين الجماهير مردّه اجتماعي بحت، لا علاقة له بنباهة اليساريين أو حدّة ذكائهم. يبدو لي أن الأنظمة السياسية العربية الحاكمة في الستينيات والسبعينيات كانت في حاجة إلى نشر وهم الاشتراكية أكثر مما كانت في حاجة إلى تطبيق مبادئها. من هنا نشأت خصوصية علاقة الأنظمة السياسية العربية بالاشتراكية: من جهة استعملوها كشمّاعة للعدالة الاجتماعية والمساواة الطبقية ولم يتجاوزوا الشعار إلى التمثل الفكري والتطبيق المادي، ومن جهة ثانية تأثر بها المفكرون العرب إلى حد أحيوا مذاهب إسلامية قديمة ووأوّلوها تأويلا اشتراكيا، وهكذا أصبح “أبو ذر الغفاري” من أبطال الاشتراكية وتحوّل “القرامطة” إلى ثوار اشتراكيين.
جل الأنظمة السياسية العربية الحاكمة استغلت الاشتراكية كشعار لأن هذه الأخيرة كانت حلما شرعيّاً يستجيب إلى طموحات العرب وتوقهم إلى التحرر والعدل والتقدم والمساواة. هذه الوضعية دامت تقريبا عقدين أو ثلاثة من الزمن (50-79). يبدو لي أن انضمامَ العرب إلى المنظومة الاشتراكية أثناء هذه الفترة كان في المتناول، وكانت الاشتراكية تمثل النظام الأكثر ملاءمة للوضعية العربية في ظل الحرب الباردة بين القطب الاشتراكي “التقدمي” والقطب الرأسمالي الامبريالي، وفي بعض الأحيان كان الفكر الاشتراكي الأكثر انتشارا في الأوساط الثقافية العالمية. لكن الفكر الاشتراكي لم يكن يوماً في الساحة وحده ولم يلبث أن واجه منظومات رأسمالية ثورية محافظة ومنافسة قوية خلال سنتَي 78-79 (ثورة دينغ شياوبينغ في الصين وثورة تاتشر في بريطانيا وثورة الخميني في إيران، أمين معلوف، غرق الحضارات، 2019)، وكثيرا ما استغل اليمين العربي هذه المنظومات الأخيرة لنشر دعوة الليبرالية الاقتصادية دون الأخذ بالديمقراطية.
يجب التمييز إذن بين العهد الاشتراكي الذي مر به الفكر العربي وبين المدة القصيرة جدا التي تبنت فيها بعض الدول العربية نظاما اشتراكيا مشوّها نظريا وتطبيقيا. إن الاشتراكية الرسمية العربية لم تكن أبدا وفية لأصولها الماركسية، لكن الكتّاب والمفكرين والمثقفين والطلبة والمناضلين والمعارضين العرب قد اعتنقوا الاشتراكية في صورتها الماركسية وعاشوا عهدا اشتراكيا فكريا افتراضيّا زاهرا رغم تعسفهم على بعض المفاهيم العربية الإسلامية غير الاشتراكية وتأويلها تأويلاً اشتراكيا خاطئاً. كان الشيوعيون والاشتراكيون الديمقراطيون والقوميون واليساريون الإسلاميون العرب يوظفون فكرة الاشتراكية توظيفا سياسيا كمادة للدعاية التحررية بغض النظر عن أصولها ومراميها الفلسفية. كان المهم عندهم آنذاك هو توظيف شعار العدالة الاجتماعية ولا يهمهم من أي إيديولوجية تيسر، ورَفْعِ الشعارات هو بمثابة التغني بشيء مفقود ومستحيل.
رُفعت الاشتراكية كشعار ليس إلا في العهد الاشتراكي الذي عاشته بعض الدول العربية. وبالفعل نلاحظ أن مؤلفات الاشتراكيين العرب في ذلك الوقت لا تتميز بالتجذر والتكيّف والتأقلم والتماهي الجدلي (Indigénisation) وأن مؤلفيهم يُتهمون دائما بالميوعة والزندقة والكفر والإلحاد وفي أفضل الأحوال بالتقليد والانبتات عن مجتمعاتهم العربية الإسلامية، والحقيقة أن جل هذه التهم لم تكن من فراغ. لكن إذا تفهمنا بعمق الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك أدركنا أن هذا الفقر في الإبداع وإنتاج المعرفة في بيئتها لا يعني عجزا في أذهان اليساريين ولا قصورا في همتهم وإنما يعني نتيجة طبيعية للتفاعل الذي حدث بين عنصرين اثنين أساسيين: الأول يتمثل في عدم اطلاع فظيع من قبل عَلمانيي ويساريي ذلك الوقت وهذا الوقت أيضاً على قاموس اللغة العربية وقاموس الرموز وتراث الفقه وتاريخ الحضارة الإسلامية (بالرغم من وجود جهابذة عرب مسلمين أنتجوا بغزارة في هذا الميدان أمثال عبد الله العروي وحسين مروة وصادق جلال العظم وعلي حرب وهشام جعيط وعبد المجيد الشرفي ومحمد حداد وآمال ڤرامي ومحمد الشريف الفرجاني ومحمد الطالبي ونصر حامد أبو زيد وجمال البنّا وألفة يوسف وأبو يعرب المرزوقي وعياض بن عاشور ويوسف الصديق ومحمد أركون وهاشم صالح وغيرهم – أكيد الكثير – مما لم أطلع على إنتاجاتهم)، أما العنصر الثاني فيتمثل في صعوبة وتعقّد الفكر الاشتراكي مما نفّر منه الجماهير الأمية أو المتعلمة غير المثقفة وخاصة أصحاب الاختصاصات في التكنولوجيا أو العلوم الصحيحة والتجريبية كالرياضيات والهندسة والطب والبيولوجيا.
أثناء المد الاشتراكي العالمي، لاحظ المختصون شيئاً من الانفصال بين النظرية والتطبيق، ولم تسترجع النظرية الاشتراكية حقها من اهتمام المؤلفين إلا بعد انتهاء العهد الاشتراكي، بعد أن أفضت التجربة الاشتراكية إلى فشل عالمي (عام 89 في الاتحاد السوفياتي والدول الأوروبية الشرقية وكمبودج وألبانيا وكوريا الشمالية)، وفشل عربي (عام 70 في مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن وتونس)، أثبت أن الاشتراكية متناقضة في ذاتها وليست أفضل من نقيضها النظري المتمثل في الليبرالية الرأسمالية ولكن بقى شعارُ الاشتراكية مرفوعا لأن الحاجة إلى العدالة الاجتماعية تدعو إليه، شعارٌ لم يعد من مسلمات هذا المجتمع. وسيكون نقد هذا الشعار منطلقا لطرح مسائل جوهرية حول الاشتراكية وعلاقتها بالحرية والديمقراطية.
ويبدو لي أن الأفكار التالية غير صحيحة:
• مثل القول بأن الاشتراكية العربية هي اشتراكيةٌ متولدة من رحم الاشتراكية العالمية تولدا آليا، وأن الدعوة إلى الاشتراكية في العالم العربي الإسلامي ترجمة صرفة للدعوة العالمية، وأن كلمة اشتراكية ذاتها ترجمة للكلمة الأجنبية “سوسياليزم”.
• أو أن الدعوة إلى الاشتراكية في العالم العربي الإسلامي قد نتجت قبل كل شيء عن حاجة متولدة في المجتمع العربي الإسلامي نفسه، شعر بها عدد من الناس المثقفين والمفكرين والمبدعين والفنانين والطلبة والمعارضين السياسيين. على العكس، الدعوة إلى الاشتراكية لم تنبثق من الصراع الطبقي (الوعيُ بالصراع الطبقي في العالم العربي مفقود لغياب مفهوم الطبقة نفسه، تُعرّفُ الطبقة بوعي العمال بالانتماء إلى طبقة البروليتاريا وليس بوجودهم المادي كعمال في السوق الرأسمالية)، وهذا الانبثاق المرتقب نظريا من قِبل ماركس نفسه لم يحدث حتى في الاتحاد السوفياتي أو الصين. قد يكون حكام العرب، مثل عبد الناصر وصدام والأسد والقذافي، قد تهافتوا على المنظومة الاشتراكية لأنهم رأوا فيها المنقذ الوهمي الوحيد من براثن الرأسمالية الغربية الاستعمارية الامبريالية ووجدوا فيها ملاذا وقتيا آمنا وتجسيما لما يحسون به في داخلهم من استفراد بالرأي والحكم، فنهلوا من تنظيماتها الاستبدادية المتعددة الأشكال كالحزب الواحد والزعيم الأوحد المعصوم ورأسمالية الدولة والانتخابات المزيفة واستلاب الشعب والدكتاتورية على الشعب باسم الشعب. كل هذا يؤكد أن الدافع الأول عند حكام العرب كان دافعا ذاتيا محليا انتهازيّاً وليس تأثيرا خارجيا. والدليل على ذلك هو أن حكام العرب في تلك الفترة، ما بعد الاستعمار الغربي، لم ينقلوا بأمانة مبادئ الاشتراكية الغربية التي رغم كثرة هناتها، لا ينكر أحدٌ أنها حققت في العالم الشيوعي نهضة مادية في البنى التحتية والعلم والتعليم والتكنولوجيا والتصنيع. تعامى مثقفو العرب عما كانت تحمله الاشتراكية من وعي بتناقضاتها الداخلية البنيوية الذاتية. تعاميهم هذا، غير المقصود وغير الواعي، نتج عن حلم بتحقيق العدالة الاجتماعية في أسرع وقت ممكن كأنهم يسابقون الزمن، إنهم في حاجة إلى اشتراكية متفائلة حازمة واثقة بذاتها فأوّلوا اشتراكية عصرهم حسب أوهامهم.
لذلك يمكن القول أن نظرية الاشتراكية الديمقراطية الحديثة (Social-démocratie) نشأت في الغرب في ألمانيا والدول الأسكندنافية بعد أن عرفت الاشتراكية الشيوعية الأرتدوكسية إخفاقا في ظرف تاريخي معيّن. وهذا ما برز فعلا بعد تلاحق الثورات الديمقراطية في الاتحاد السوفياتي والدول الأوروبية الشرقية.
يبدو لي أن مفهوم الاشتراكية عند الاشتراكيين أنفسهم بقي مفهوما سطحيا وأن تلك السطحية كانت الحاجز الذي منع الثوار الاشتراكيين، أمثال لينين وستالين وماو وكاسترو من تجسيد الاشتراكية في تنظيمات سياسية تتصف بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ونبذ الامبريالية. إن أخطاء الثوار الاشتراكيين نشأت عن خلط بين الاشتراكية والدكتاتورية. ولتدارك تلك الأخطاء لا بد من نقد ذاتي وتطوير في التنظيمات والاستفادة من تجارب التنظيمات الليبرالية الرأسمالية وتوظيف المبادرة الفردية أفضل توظيفٍ، أما بالنسبة للاشتراكيين العرب، فهم مطالبون زيادة على رفاقهم الغربيين بالتعمّق في دراسة تراث وواقع مجتمعاتهم العربية الإسلامية. قال ماركس بما معناه: “على الفلاسفة تغيير العالم وليس فهمه”، وأنا أقول بعد حفظ المقامات: “على اليساريين العرب فهم ماضيهم واستشراف مستقبلهم قبل تغيير واقعهم، ولا يوجد في الأفق أمامهم سوى التماهي الجدلي مع هويتهم العربية-الإسلامية (Cest ce quon appelle en Français l’indigénisation comme ils ont fait les chinois)” والسلام
إمضائي
و”إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ” جبران
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 14 فيفري 2012 (تحيين 2019).

Exit mobile version