بحري العرفاوي
“الحقيقة” ليست تصورا جاهزا يمكن ادعاء امتلاكه أو نفي امتلاك الغير له، “الحقيقة” في ذاتها هي على خلاف “الحقيقة بالنسبة لنا” فما نتصوره حقيقة قد يكون جزءا منها وقد لا يكون وما ننفيه عن غيرنا من حقيقة قد يكون فيه بعضها، علينا أن نتحرر من وهم امتلاك “الحقيقة” ومن وهم “ضلالة” غيرنا حتى نوجد مسافة للتواصل ومفاصل للإلتقاء.
لماذا كان الرسل والأنبياء والفلاسفة والعرفانيون مطمئنين دائما هادئين ؟ ببساطة لأنهم كانوا يعتقدون أن “الحقيقة” مُخبّأةٌ في المستقبل أو في التاريخ أو في الغيب، أي إنها “المدى” الذي فيه نتحرك ونحوه نسعى إنها العوالم التي تتكشف لنا باستمرار ونحن نتجه نحو المستقبل ونتوغل في البحث والكشف والتعرّف.
لم يكن الأنبياء والرسل والفلاسفة يغضبون أو ينفعلون لأن الناس لا يفهمونهم أو لا يصدقونهم، إنما يتألمون لشقاء الناس بجهلهم فلم تكن تعنيهم “الحقيقة” مجردة إنما كانت تعنيهم “الحقيقة” ضياء ونورا ودليلا وعلامة ومنارة يهتدي بها الناس ويستضيئون فيسيرون في مسالك السعادة ويتجنبون سُبُل الشقاء.
إن الذين ينفعلون ويغضبون ويتوترون ويفقدون وقارهم وهدوءهم فيسيؤون التعبير ويسفون في الخطاب ويخسرون صداقاتهم ويقطعون صلات رحمهم ويدمرون جسور تواصلهم مع الآخرين بسبب اختلاف في تقدير موقف أو توصيف مشهد أو قراءة حادثة… إنما هم أناس لا علاقة لهم بـ”الحقيقة” وليس يعنيهم سعادة الناس إنما هم “أنانيون” يخوضون المعارك من أجل “أنفسهم” أي من أجل أهوائهم وشهواتهم لا يعنيهم سوى أن ينصروا مواقفهم وليس أن ينصروا “الحقيقة”.
إن أول خطوات الانتصار لـ “الحقيقة” هو التواضع إليها والسؤال عنها والصبر على تقليب المواقف والرؤى تلمّسا لبعض جوانبها وتحسسا لبعض معانيها واشتياقا لمتعة الإقتراب من أسرارها.