العسكر العربي لصوص السلطة
نور الدين العلوي
لقد اقتدى العسكر العربي بالعسكر التركي باسم التحرير والبناء، وفشل. وقد عاد العسكر التركي إلى ثكناته بثمن باهظ، ولكنه عاد أخيراً وتحررت تركيا وهي تبني نفسها وتقدم درساً مجانياً لكل غيور على وطنه.
إنهم متشابهون كالبيض، لا متشابهون كمربعات الدومينو، لأنهم عسكر عربي واحد من الجزائر إلى السودان. ثكنة واحدة، مدرب واحد، عقل واحد. لا يمكن أن يكتب عنهم أحد بحياد أو أن يمنحهم شيئاً من الاحترام في العبارة. لا يمكن الحديث عنهم بعقل بارد يزعم التحليل دون انفعال.
جيوش من كروش
المجد العسكري مرمي على قارعة الطريق في السودان وفي الجزائر مثلما كان مرمياً في ليبيا واليمن ومصر، قبلهم جميعاً كان يكفي للعسكري أن يؤدي التحية لشعبه ويتراجع إلى ثكنته ويحرس بلده لينال نياشين المجد ويسكن قلوب الناس فتُرد له التحية بعشر أمثالها.
لكن في جميع هذه البلدان يرفض العسكري ذلك، بل يزعم حماية الوطن من أبنائه. كانت هناك معركة قومية لتحرير الأرض المحتلة، لم يعد أحد يطالب الجيوش العربية بالانخراط فيها، فهذا حلم أصبح قديماً، وودعته الشعوب العربية منذ العام 1948.
منذ عقود كانت الشعوب تطلب من جيوشها أن لا تلتهم الأوطان، ولكنها لم تكن تنادي حياً يسمع. فالعسكر العربي تحول إلى تجار ومضاربين يختفون تحت الزي العسكري ويشهرون فوهات الدبابات على شعوبهم ويملؤون كروشهم بالسحت (كما يفعل اللصوص). الوطن عندهم فرصة لغنيمة، ولذلك لا يمكن للمرء أن يرى جنرالاً رشيق القد من حزم ورياضة، وإنما هم شكلاً ومضموناً كروش منداحة لا يمكنها حتى الانزلاق داخل قمرة الدبابة لتمرين مسرحيّ تدريبيّ.
الجيوش العربية تحولت إلى نخبة إدارية (جيش موظفين بالميري) تمسك مفاصل الاقتصاد في أغلب البلدان (الاستثناء التونسي الوحيد ناتج عن كون السوق ضيقة على منافسين كثر فلم يجد له مدخلاً واضحاً وقامت الداخلية والجمارك بالحلول محله). هذه الجيوش الإدارية غير معنية بحرب أو بميادين، فهو لم تخُض معركة منذ تأسست إلا ضد شعوب مقهورة. فإذا تجرّأ على حرب خسرها حتى مع دولة التشاد الفقيرة.
لا داعي هنا للتذكير بحجم الإنفاق على التسليح حيث تُستنزف الميزانيات ويركن السلاح للصدأ. كل صفقات السلاح مشبوهة قُدمت كهدايا لجهات أجنبية تنتج السلاح نظير الحماية الخارجية للنظام العسكري من شعبه المسكين. غني عن القول أيضاً أنها صفقات تُعقد في المواسم الانتخابية للدول المصدرة بخاصة الولايات المتحدة، وليس المثال السعودي هو الوحيد في هذا الباب، ولسان كل عسكري يقول “أشغّل مصانعك وتحميني من شعبي”.
لا فرق بين المثقفين والعسكريين العرب
وهذه مصيبة أخرى نراها تحل بالثورة العربية الواقعة تحت قبضة العساكر. المثقف المدني العربي كالعسكري الأمي ذي التكوين المحدود يقفان من الثورات موقفاً واحداً متطابقاً. ويقدم لنا المثال المصري والجزائري حتى الآن نموذجاً مفيداً للتحليل.
فلم يكن ممكنا لعسكر مصر أن ينقلب على التجربة الديمقراطية الوليدة دون تحريض وتبرير مثقفين يعبدون العسكر، ويجلون تدخله في السياسة ويدعونه إليها إذا تظاهر بالخجل. المثقف العربي المدني صار يرى في حفتر زعيماً قومياً ويدعوه إلى القفز بالدبابة على السلطة المدنية، كما هلل للعسكر المصري وكما يتظاهر الآن بالخوف على الجزائر إذ تخرج من يد العسكر إلى الشارع المنتفض.
نجد أنفسنا هنا إزاء عقل سياسي منحرف. يتوزع الانحراف بين النخبة العسكرية والنخبة المدنية. هذا الانحراف يتجاوز الطمع في غنيمة السلطة إلى خلل ثقافي جذري لم يفلح في إعادة تصور العالم ضمن الديمقراطية، رغم أن التجارب الغربية ماثلة كدروس مجانية، بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية إذ ثبت بالدليل أن الفاشية تخرب ولا تبني، وأن المسارعة إلى الجبروت مدمرة للإنسان وللأوطان.
الانحراف إذن ليس عسكرياً بل في العقل الباطن للنخب العربية التي وجدت في الجيش غايتها. فالفاشية العربية روح متغلغلة في النخب، وكل ما تفعله هذه النخب منذ سبعين عاماً هو إعادة تدوير المبررات الكاذبة مثل تحرير الأوطان وتحرير الأراضي المحتلة أو إنجاز التنمية الدائمة، ولم ينجز من ذلك شيء بتواطؤ كامل بين نخب العسكر ونخب الأمن ونخب الجامعات المتصفة زوراً بالمدنية.
إعادة تملُّك الدولة بتصورات غير فاشية
هذا هو مشروع الربيع العربي، وهذا هو سبب معاناة الشارع. المشروع محتاج إلى بدء من صفر فكري وثقافي لم ينتبه التونسيون والمصريون في الموجة الأولى لعمقه فاكتفوا باحتفالات إسقاط رأس المنظمات الحاكمة ولم يطرحوا -وهي وظيفة النخب- التغيير العميق حتى استفاق الشعبان على الوجه الفاشي للنخب تبرر للفاشية العسكرية من جديد، ولا ترى أفقاً غير الدكتاتورية.
ولم تكن حروب الأيديولوجيا بين اليسار والإسلاميين إلا ذريعة كسولة لم يرتقِ فوقها أحد لأنها مقعد مريح. فالسيسي (وحفتر لاحقا وبن علي دوما) هم قاهرو الجرذان، وهو نعت جماهير الحركات الإسلامية عند نخب اليسار.
كان المشروع الديمقراطي يقتضي ولا يزال إدارة حوار على غير قاعدة التنافي الأيديولوجي بما يفتح المجال للبدء في البناء على قواعد جديدة وسليمة. ولكن ثغرة الدفرسوار هذه ضيعت زخم الموجة الأولى، والأمل معقود على موجة ثانية ذات هدف تصحيحي وتأسيسي يتلافى الخيانة الأولى.
التنافي الأيديولوجي زَرْعٌ زقومٌ زرعه العسكر منذ الانقلابات العسكرية الأولى في مصر بخاصة، وكان وسيلة حكم استمرأها جزء من اليسار فشارك فيها وقبض. فلما ضبط الربيع الشعبي الجميع في حالة تلبس بالفاشية تم الاحتيال عليه بنفس اللعبة باسم تطهير الأوطان من “الإخوان”.
فلا عجب أن نرى العسكر وجزء من اليسار (بشقه القومي الفاشي الفاشل في كل تجاربه) يقف اليوم مع العسكر حيثما تحركت الدبابة، حتى وصلت به المهانة إلى رهن نفسه سياسياً لأنظمة النفط الفاسدة لمجرد أنها تشاركه العداء للتيارات الإسلامية. وقد قضى ردحاً من الدهر يروّج للحرب عليها.
العصف الذهني الذي يطلبه الشارع العربي الآن هو إخراج المستقبل من صراعات الماضي البغيض الذي مكّن للدبابة العربية من قهر شعوبها. عصفٌ يبدأ بتقاسم ثمرة الربيع دون منح قسط لنخبة العسكر التي باعت أوطانها. إنها عملية تأسيس لا عملية إصلاح، وإن اتخذت شكل ثورات سلمية نافرة من القتل والدماء.
المعول الآن على موجة تصحيح في السودان، والجزائر تتعظ من فشل تونس ومصر واليمن. لا تهادن العسكر ولا تقسم معه، وتضعه أمام الخيار الوحيد في دولة مدنية هو ضرورة العودة إلى الثكنات، وعند الحدود، وتذويب كروشه الكبيرة في الجري على حدود الوطن. فالوطن العربي لا يحتاج إلى دبابات بل يحتاج جامعات جديدة لتخريج نخب جديدة ترتقي بالوعي، وتقود إنتاج الأفكار المؤسسة لقرن عربي جديد لا يمكننا إلا أن نتفاءل بزخمه في كل العواصم الثائرة الآن وقريباً.
لقد اقتدى العسكر العربي بالعسكر التركي باسم التحرير والبناء، وفشل، وقد عاد العسكر التركي إلى ثكناته بثمن باهظ، ولكنه عاد أخيراً وتحررت تركيا وهي تبني نفسها وتقدم درساً مجانياً لكل غيور على وطنه.
TRT عربي