لم ينفعه سيدي المازري ولا روح بورقيبة.. نداء في واد سحيق

لطفي الحيدوري
افتتح الباجي قائد السبسي الرئيس الشرفي لحزب نداء تونس مؤتمر الحزب يوم 6 أفريل 2019، في المنستير قائلا في كلمته إنّ اجتماع أعضاء الحزب يجري “تحت رعاية الإمام المازري حلال البيبان وروح المجاهد الحبيب بورقيبة ترفرف فوق السماء”. كان الباجي يشحن أنصار حزبه ويحثهم على النجاح باعتبارهم مدعومين من الغيب ومن التجربة التاريخية. وردّد قائد السبسي دعاء قرآنيا يستجمع القوة فتلا: “وقل ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا”.
شارك في أشغال مؤتمر النداء أكثر من 1800 نائب ونائبة، وهو ما أدهش الرئيس المؤسس لحضورهم في القاعة بعد سنوات من التقلبات والانسحابات والأحزاب الوليدة، أنذرت بتفتت هذا الحزب. فعبّر الباجي قائد السبسي عن أمله أن يسفر مؤتمر النداء عن خروج الندائيين أقوى وملتفين عن مشروعهم الذين ناضلوا من أجله منذ تأسيس الحزب في 2012.
لقد خاب أمل الباجي لم يستجب المولى لدعائه بعد أن خذله أبناؤه أجمعون، وأوصدت الحلول أمام الحزب، إذ لم تصلهم بركة سيدي المازري، أحد أعلام المنستير ورموزها الروحيين. أمّا بورقيبة فقد مات حقيقة، وإلى الأبد، في وعي هؤلاء المننتسبين إليه انقيادا وانتحالا.
كانت كلمة الباجي قائد السبسي مفاتيح قراءة نهاية حركة نداء تونس. من عدة أوجه.
فالمجتمعون يوم 6 أفريل 2019 بالمنستير لم يوحدهم بورقيبة، وكيف يمكن لبورقيبة أن يكون موحّدا، وهو الذي ترك حزبا قابلا للاختطاف من جنرال حوّله إلى أداة أمنية محتقرة بين الناس ويهابون شبكاتها في كل حيّ ومدينة وإدارة.. وبعد ذلك أبعد بورقيبة فنسوه وتركوه يصارع البقاء وحيدا في إقامة جبرية. وتوفي ولم يمشوا في جنازته، بل لم يتحدّوا المنع من الاقتراب من نعشه. ثم تفرق ورثة الحزب، وكشفت الثورة التونسية أنّه لم يبق، إن لم نقل لا يوجد، مشروع بورقييبي، بل مجرد رمزية للمزايدة والمتاجرة بها لدغدغة العواطف.
كان السبسي يخطب بعد أن تلا الفاتحة على روح الحبيب بورقيبة. لم تكن المناسبة عبثية بل تاريخ رمزي سطره نداء تونس، ففي يوم ذكرى وفاة بورقيبة كان إعلان صريح لحالة احتضار حركة نداء تونس.
تقلبات نداء تونس تلخص سيرة كاملة لانهيار وهم استئناف مشروع بورقيبة، وأيّ مشروع يستذكرونه، بل هم يستعيدون سيناريو الفشل. لقد دشنت دولة الاستقلال بداياتها بمرحلة الاشتراكية التي انتهت إلى محاكمة رائدها أحمد بن صالح، وكانت نهاية مرحلة الليبرالية بإضراب عام دموي (1978) وتمرّد مسلح في قفصة (1980) وانتهت بجلطة دماغية أبعدت الهادي نويرة. وانتهت مرحلة الإصلاح الهيكلي بفرار محمد مزالي متنكرا عبر الحدود الجزائرية، لتتطور الأحداث نحو انقلاب على بورقيبة شعاره تصحيح المسار، كان العنوان نفسه للمحاولة الانقلابية الأولى فجر الاستقلال بقيادة الأزهر الشرايطي، مع فارق المقاصد وطينة الرجال. وكانت شرعية افتكاك السلطة بادعاء وراثة الحزب الدستوري والحركة الوطنية، مبررا لمرحلة قمع وسياسات تنموية تمييزية وحاضنة لفساد العائلة الحاكمة المحتكرة لخمس الثروة، وانتهت هذه المرحلة بانتفاضة عارمة نزعت الشرعية عن الجميع، ودشّنت مرحلة الشرعية الشعبية التي فشلت النخب التي حكمت ومن عارضها، في إدارتها.
الذين رفعوا شعارات العودة إلى ما قبل الشرعية الشعبية، وإلى إرث الرموز التي صنعت دورات الفشل خلال خمس عشريات، لم يحققوا سوى تحطيم الأمل في المستقبل، فقادوا التونسيين إلى الحنين إلى الماضي الذي صنع حاضرهم البائس.
لم يبق إذن سوى التوجه إلى رباط سيدي المازري والتوسل به لفتح أبواب المستقبل الموصدة، كان حضور سيدي المازري في مؤتمر حزب “حداثي تنويري” نشازا حقيقيا. فلقد دارت معركة المصلحين التونسيين في بداية القرن الماضي صارمة ضد “الإسلام الطرقي”، وقاومه روّاد كبار انتصر عليهم “الإسلام الرسمي”، وألجأهم إلى المنفى الاختياري، أو إلى الموت حسرة. وهكذا رسّخت دولة الاستقلال بركة القبور والزعماء المخلّصين وتوزّعت المدائح والأذكار بين العيساويات والزوايا وحفلات ميلاد الحبيب بورقيبة. فلا ريب أنّ انتشار الشعوذة وأوهام الثروة تأتي طفرة، مخبوءة في الأرض، أو يتم تحصيلها بالحيل الجهنّمية الإجرامية بواسطة العصابات المحتمية بالسلطة.
في خطاب الباجي علامات على المصير البائس للحزب الكبير الذي انتفخ يوم الغنيمة وانفجر وقت تقسيمها ثم عند اختبار المحاسبة. لقد كان قائد السبسي أكبر الخاسرين رمزيا، إذ خذله مريدوه، وكانت دعوته لهم صيحة في واد.
Avant Première – قبل الاولى

Exit mobile version