ليلى حاج عمر
حين دخلتها ذاك النهار كان لي نفس الشعور حين دخلت الغريبة أوّل مرة. شعور ببرودة الحيطان التي تتكتّم على تاريخ طويل ساخن وملتهب أحيانا، بجمالية خرافية وفنّ شاهق. وحين رفعت رأسي رأيت أحدب نوتردام قابعا خلف جدران الكاتدرائية منعزلا عن العالم يخفي عاهته عن مجتمع يحتقر الضعيف، ورأيت أزميرالدا بشعرها الأسود الغجري وعينيها الواسعتين تضيء قلبه بالحبّ وتنير داخله بالجمال الإنساني. لقد نجح الحب والجمال في تغيير حياة كوازيمودو الأحدب قارع الأجراس بكنيسة نوتردام ونجح فيكتور هيغو صاحب رواية أحدب نوتردام في تخليد المكان في التاريخ بالفنّ الخلّاق وتحويله من رمزية القمع إلى رمزية الحرية. ورأيت الأحدب كما صوّره شريط الكرتون في ما بعد يقفز بحبل الأجراس من مكان إلى آخر في الكاتدرائية العظيمة الشاهقة. وابتسمت.
حين بدأ القداس كانت القاعة ممتلئة بالزوار وخاصّة بسوّاح من الصين جاؤوا يستكشفون المكان ويصوّرون تفاصيله وفوجئنا بأحد خدم الكنيسة يصيح في الناس بأن ابتعدوا فالكاردينال سيمرّ وكانت هذه المفاجأة الأولى فاصطفّ الناس يمنة ويسرة ومرّ هو صامتا فاخر اللباس. وحين بدأ كلمته كان الكثير قد جلسوا ينصتون وفوجئت بشاب صيني قريبا مني يبكي بحرقة ودون توقف. لم أفهم سرّ بكائه وخمّنت أنّه قد يكون، وهو ابن الصين الشيوعية، قد اكتشف فكرة الدين؟ أو الله؟ أو لعلّه أحدب آخر لا تُرى عاهته ولكنّ عصرنا المشوّه أحدث في نفسه ما يكفي من الاحديداب كي يبكي في حضرة الروح؟ أو لم يجد الحب في امرأة فوجد في خطاب الكاردينال تطهّرا من الوجع؟ لم أفهم سرّ الانخراط الشديد في البكاء، وحين التفت رأيت آخرين يبكون سرا أيضا وأغلبهم من السياح أو هكذا يبدو من مظهرهم. كانوا يبحثون عن شيء ما لعلي لا أفتقده ولا أجده في صوت الكاردنال البارد، أنا القادمة من مدن الشمس، ولا في خطبته التي يلقيها دون حماس بل بهدوء شديد وعقلانية لافتة ورتابة في الخطاب فلا نبرة تعلو على أخرى إلى حد الشعور بالملل. ولكن الرهبة التي تملأ المكان والحضور الخاشع إلى حدّ البكاء كان يؤكّد لي حاجة الإنسان إلى إشباع الروح. لا أحد قادر على الخواء. لا أحد.
حين طفنا في المكان كنت أقارن الهندسة المعمارية الفخمة بهندسة المساجد الإسلامية وأمسك بسرّ السحر بين التجسيد والتجريد بين حضارتين وأجد في جمالية الاختلاف أحد أوجه جمالية وجودنا المشترك على هذه الأرض. كلّ هذا التراث الإنساني الذي أنتجه البشر بفنّ عظيم يوحّدنا لولا هذا النهم اللافت لدي دول على التفقير الحضاري لدول أخرى بنهب آثارها وتدمير معالمها المعمارية. كنت أستحضر في سرّي بوجع خفي لا أظهره معالم رائعة دمرت في العراق وفي سوريا وفي اليمن. وكنت أحاول أن يكون لي برود الكاتدرال العقلاني وكان قلبي العربي موجوعا وجلّنا يحمل ذاكرنه الموجوعة وهو يسافر ولا يستطيع الحياد أمام ما يرى. هو شرخنا الحضاري الذي نتجول به في كلّ العالم.
“وكان جرحي عندهم معرضا لسائح يعشق جمع الصور”
ونحن نغادر أصرّ أحدنا على الاعتراف على سبيل التجربة وسط تفكّهنا بما سيفعل. وهو يتوجّه نحو القس في المكان المخصّص كنت أفكّر أنّ أوروبا بدورها قد تحتاج الاعتراف يوما بكلّ الانتهاكات التي ارتكبتها بحق الشعوب والتي حوّلت البعض لدينا إلى كائنات مسكونة بالتشفي عاجزة عن الحزن أمام نكبات الغرب بعد أن أبادت النكبات كلّ إحساس إنساني لديها. هكذا تبيد الدول بيديها الإنسانية التي تدّعيها وتصنع ألغام حقد.
حزينة لما أصاب السيدة العذراء التي ستنهض بسرعة من كبوتها بعد أن تعاطف معها الجميع، ولكني حزينة أكثر لما أصاب آثار تدمر والموصل وحلب وصنعاء .. من القصف الأعمى، وما أصاب تونس والجزائر وليبيا.. أثناء النهب الاستعماري. ويشاركني في هذا فرنسيون وغربيون يعملون من أجل السلام في العالم.
وحدها الشعوب تتّحد في وجه الحرائق القديمة والجديدة.
والحرائق مازالت تلتهب داخلنا.