المهج الباريسية الحزينة
نور الدين العلوي
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة كلما أصابت باريس مصيبة بكى لمصيبتها تونسيون من ذوي القلوب الحداثية الرهيفة كجناح فراشة. قلوب رحيمة وحنونة وتحب شارلي وكنيسة العذراء الباريسية ولديها ذكريات في الحي اللاتيني فهي تعيش أمام قناة فرنسا الثانية كل يوم. فإذا عنَّ لنا أن نذكرهم بتاريخ الاستعمار رجمونا بالسلفية التي تحطم التماثيل وتسعر الحروب الدينية.
نكتب لهؤلاء متمنين عليهم الإجابة عن سؤال محدد: كيف لفرنسا الثقافة العريقة والتراث العظيم أن تقود حروبا في بلادنا لتسرق ثرواتنا وتتبجح بغناها الثقافي فيما نحن نشقى بعد لنوفر ثمن طبع كتاب؟ ستتفرع عن هذا السؤال أسئلة أخرى، منها على سبيل المثال: ماذا يفعل خبراء الحروب الفرنسيون على حدود تونس الغربية مع جيش حفتر المندحر؟ هل كانوا يقدمون القهوة لحفتر بأسلحة متطورة؟
نعم إنها قضية استعمار وحرب تحرير
لنذهب إلى جوهر الموضوع مباشرة فليس لدي كما يقول الفرنسيون برد في العينين لأخجل من رؤية الفرنسي الاستعماري. فلم أر غيره بعد ولن يتسع المجال لعرض الصور التي خزنتها الذاكرة المكلومة عبر قرن من الاستعمار المباشر. فرنسا الثقافة لا تقدر ثقافة غيرها. وهذا مكمن الداء وسبب الموقف الذي قد نتخذه مما يصيب فرنسا من ألم. سنحفر هنا قليلا فلن نبلغ مما فعلت فرنسا بثقافتنا إلا القليل. والحيرة في ترتيب السرد لا في توفر المادة.
فرنسا حكمت المغرب العربي قرنين بشكل مباشر أو من وراء ستار حكومات مصطنعة على هواها. وحقرت الثقافة المحلية ودمرتها محاولة فرض ثقافتها ولغتها على طبقة المثقفين في المنطقة. لم تجد هذه البلدان خلوًا من الثقافة قبل دخولها بل كانت مراكز ثقافية تقود العالم بإرث مركب من قرطاج إلى بيزنطة إلى العرب من الأندلس حتى تمبكتو. استولت على خزائن المخطوطات في تمبكتو وصيرت أكبر عاصمة في أفريقيا السوداء قرية هامشية.
رسمت صورة لبلدان العرب كماخور تحت سماء مفتوحة لإغراء شبابها بالهجرة الاستعمارية (لوحة دي لاكروا عن نساء الجزائر). وعندما كتب إدوارد سعيد عن الشرق المصطنع ثقافيا كانت المادة متاحة، الشرق الماخور اللاهي الغبي الكسول المغرق في الفحش. من الرسائل الفارسية لمنتسكيو إلى غي دي موباسان عن العرب الجهلة الجديرين بالمحق.
وعندما تتجول في باريس وقد تجولنا تجد عظمة المعمار وغنى الثقافة ولكن عندما تجوز إلى اللوفر العظيم تجد أن أعظم أجنحته والأكثر استقطابا للزوار هو جناح الفرعونيات التي سرقتها من مصر. ولن تجد في الأثناء لوحة واحدة لرسام أو نحات تونسي رغم أن التوانسة على سبيل المثال أنشأوا مدرسة للرسم اسمها مدرسة تونس ولها تقاليدها وطابعها المميز وأعلامها المبدعون. لم ير الفرنسيون في ذلك أية إضافة للفن العالمي ليتم ذكره في لوفرهم العظيم.
لا أذكر رغم أني أزعم الاطلاع أن الفرنسيين يترجمون من الأدب العربي لقراء الفرنسية ويكتفون فقط بتمجيد من يكتب من العرب بلغتهم ويقدم لهم الصورة التي يحبون عن العرب (الصورة إياها) مثال ما يكتب لهم الطاهر بن جلون عن الحياة الجنسية المشوهة للعرب. وفي النقاش الفكري الطويل بين العقاد وطه حسين يصبح طه حسين مؤسسا للحداثة بينما العقاد والرافعي وجيلهم هم علامات رجعية. وكم أعدد عن مثقفي لبنان وسوريا حيث مر الاستعمار الفرنسي وترك أثرا لا يرى إلا ما تحب فرنسا أن ترى.
المحق الثقافي مكمل للاستعمار العسكري
لا أحتاج هنا إلى مقارنة طالما كتب فيها بين الاستعمار الإنجليزي والفرنسي لجهة العبث بالثقافات المحلية فالاستعمار واحد، ولكن فرنسا كانت تزيد عن القهر العسكري قهرا ثقافيا فتشوه كل ثقافة محلية وتفرض ثقافتها عبر المدرسة وعبر التمويل الثقافي. والنتيجة أن البلدان التي مرت بها فرنسا فقدت هويتها وشخصيتها الأساسية وتحول مثقفوها إلى هوامش للثقافة الفرنسية فلا يرون العالم إلا من خلالها، ولذلك يبكون صحيفة شارلي التي تسخر من عقائد المسلمين ويبكون الكاتدرائية المحترقة ويعترضون على وضع مقارنة بين جرائم الاستعمار في العراق وفي سوريا وفي أفريقيا وما أصاب الكاتدرائية. والتهمة جاهزة أن كل من وضع المقارنة عشية احتراق المعلم الباريسي بات داعشيا يسعر الحروب الدينية.
فإما أن تكون حداثيا على الطريقة الفرنسية أو تبيت وتصبح متطرفا دينيا كأن تراث العالم هو فقط تراث فرنسا ومكتسبات الآخرين لا تساوي قيمة التراب الذي بنيت عليه.
كم تمنينا أن تحظى معالم العراق وسوريا وتمبكتو الدينية بكلمة تعاطف مثل التي حظي بها تمثال بوذا في أفغانستان، فهذه المعالم بنيت قبل أن تتحول باريس من قرية في مستنقع إلى عاصمة عالمية. وهذه المعالم بنيت بجهد أصحابها وليس بفائض استعماري منهوب من بلدان فقيرة أعدمها الاستعمار وقضى على تاريخها ومستقبلها.
يعسر علينا في هذه الحالة أن نرى مصيبة فرنسا كمصيبة للإنسانية وأن نتخذ الموقف الذي نراه من موقعنا كضحايا للاستعمار الفرنسي المباشر والثقافي. فنحن لسنا مدينين لهذه الثقافة بشيء ولا نخجل أن نصارحها بحقيقتها كثقافة استعمارية ماحقة للثقافات. لم نحظ من فرنسا بمعاملة تقدر مكتسباتنا ولذلك لا يمكن إلا المعاملة بالمثل ولن نلقي بالا لمتفرنسين يخجلون من ثقافتهم الأصيلة ليتماهوا في ما تقدم لهم فرنسا بصفته نموذجا وحيدا كونيا يمنحهم هوية لن تقر لهم بها فرنسا نفسها؛ فما هم عندها إلا مروجين لا يختلفون عن باعة الملابس القديمة التي تملأ أسواق الفقراء في أفريقيا وقد أعجزتهم فرنسا عن صناعة ملابسهم بأيديهم.
حالة الاستيلاب الثقافي التي شرحها العظيم إدوارد سعيد في الاستشراق تجلت البارحة في التعاطف مع المعلم الباريسي المحترق وستعود كلما رغبت فرنسا على التبع من العرب الفاقدين لهويتهم وفيهم كثير يستنكف أن ينادى باسمه العربي ولو وجد سبيلا لغير اسمه ومقر إقامته، ولكن عازته الحيلة ففرنسا لا ترحب به إلا عامل كناسة فعاش بمهجة باريسية يلعن أصله ويبكى فراق مضطهديه وليس له لا علاج إلا داء الزمن.
في انتظار فعل الزمن في التبع سنظل نضع صورة المئذنة الحدباء التي دمرها الاستعمار في مقابل صورة أحدب نوتردام، ونقول: لم نأت من فراغ الوقت والثقافة ولا نخوض في الأمر كحرب دينية، ولكن لنا في أرضنا ما نبني وعلى أرضنا ما يستحق الحياة، ولا عزاء للمهج الباريسية الحزينة.
“عربي21”