النيل والعسكر..

محمد ضيف الله
للعلاقة بينهما قصة قديمة جدا تعود إلى آلاف السنين حيث ظهر العسكر للتحكم في الماء والأراضي المسقية، وظهرت أنظمة تستخدم القوة والسلاح للهيمنة على المزارعين. إلا أننا لن نتوقف عند ذلك وإنما يهمنا العقود الماضية حيث كان النموذج هو الحكم العسكري على ضفاف النيل فانتصبت على طوله أنظمة عسكرية، من منابعه جنوبا إلى مصبه على البحر الأبيض المتوسط، من أوغندا وكينيا وأثيوبيا مرورا بالسودان وصولا إلى مصر. لكن بعد عقود لم تحقق هذه الأنظمة شيئا ملموسا من وعودها، وكل ما قامت به -بدرجات مختلفة- أنها انغمست في نزاعات حدودية وحروب انفصالية. لكن الأهم أن ما حدث في الأثناء هو أن القطاع الزراعي تراجع لفائدة القطاعات الأخرى، وأساسا الصناعة والخدمات، وأما مياه النهر فقد اتجه الأمر إلى إعادة توزيعها خلافا لما حددته العقود الاستعمارية، وهي تحولات عميقة من الطبيعي أن تنعكس على طبيعة الأنظمة القائمة.
كانت البداية مع أثيوبيا حيث اختارت الاندماج الوطني عوضا عن التحارب الداخلي، وتجاوزت صراعاتها الداخلية وخمدت حروبها الحدودية، ولم تعد هناك حاجة أكيدة للعسكر واتجهت مقدراتها نحو التنمية في ظل نظام ديمقراطي، فكانت الديمقراطية الأولى على ضفاف النيل. النموذج الأثيوبي لن يبقى بدون تأثير على محيطه أو على الأقل على ضفاف النيل.
وأما مصر فقد حاولت في الأثناء أن تتخلص من كلاكل المؤسسة العسكرية، إلا أن محاولتها انتهت بسرعة إلى فشل ذريع، وذلك لأسباب متضافرة من بينها سيطرة العسكر على الاقتصاد المصري فضلا عن عداء الأنظمة العشائرية في المنطقة لكل توجه نحو الديمقراطية خشية أن يؤدي ذلك إلى انفلاتها من هيمنتها بقدر ما تسمح الديمقراطية بنهوض اقتصادي فعلي. هذا فضلا عن عداء الكيان الصهيوني الحريص على أن يقدم نفسه في الغرب على أنه الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
السودان هو اليوم بين النموذجين الأثيوبي والمصري. منطق التاريخ يشير أمامه إلى النموذج الأثيوبي. بعد أن أدى النظام العسكري إلى كل الكوارث التي ليس أقلها انفصال الجنوب. أمام السودان الخيار الديمقراطي. إلا أن النزوع العسكريتاري سيحاول المراوغة اقتداء بالمثال المصري، وربما بتدخل مباشر من النظام المصري والعشائريات المساندة له.
النظام المصري في حد ذاته لن يصمد طويلا أمام وهج النموذج الأثيوبي. الديمقراطية فيما يبدو تتجه مع مياه النيل من الجنوب إلى الشمال. والحيلة في ترك الحيل. إنه عصر الشعوب وكفى.
ملاحظة: نشر هذا المقال أولا بجريدة الزراع الإلكترونية.

Exit mobile version