مات الجنرال، عاش الجنرال !..

علي المسعودي
الأنظمة العربية هي تماما مثل حبّة الكرز، لها قشرة خارجية شديدة الليونة في حال النضوج، ولكن الجماهير الثائرة سريعة الانخداع، فما إن تُطبِق فكيها لغاية الابتلاع حتى تصطدم بالنواة الصلبة كلقمة لا تُستساغ: الجيش كحاكم فعلي، يصعب قضمه، وقد تنكسر جراء ذلك القواطع والأضراس.
ينكشف اليوم الوجه الحقيقي للعدو أمام الشعوب العربية.. هو ليس اسرائيل ولا الاستعمار القديم الجديد بل العسكرياتية، هذا الذئب الذي ألقمناه ضرع نعاجنا دهرا ليكون حارسا للزريبة !!
المواجهة اليوم هي بلا أقنعة.. ولها خط طويل، يمتدّ من جزائر قايد صالح إلى ليبيا خليفة حفتر وسيسي مصر، صعودا إلى جيش ممانعة بشار ثم نزولا إلى بن عوف السودان.
المعركة لم تعد تحتاج إلى تخفّ أو ستار، وبدا جليا وجه العسكرياتية القبيح برغم الأتربة والضباب.. فالجيوش العربية التي كدست أعتى الأسلحة من أجل قضية فلسطين، حتى استحى الفقر من حال المفقرين، لم تضع يوما عدوا في عقيدتها العسكرية سوى المواطن المسكين.
لقد نشأت الجيوش العربية أولا ثم بنت جدرانا عازلة أسمتها الدولة الوطنية، هذه الدولة التي عمّمت الخراب في كل شبر.. اليوم تنتهي المعركة إلى شوطها الأخير لنكتشف أن كل تنظيرات الوحدة والممانعة والنهضة العربية لم تكن سوى صناعات عسكرية.
الحرب اليوم مفتوحة على كل الاحتمالات، هي أم المعارك العربية. وإذا ما انكسرت الإرادة الشعبية فسلام علينا، وابشروا بممالك عسكرية نزول ولا تزول.
•••
بين الجيش الجزائري والحراك غزل في العلن، وفي الخفاء صراع كسر عظم.. غير أن استمرار الجمود في الميدان سيذهب بهذه الديبلوماسية وعبارات المخاتلة والحذر، وستنكشف في نهاية المطاف أوراق اللعب المخفية بإحكام تحت الأكمام !.
لم يكن صعود عبد القادر بن صالح للرئاسة مندرجا ضمن حركة ذاتية لعجلة المؤسسات الدستورية، بل دفعا من قوّة تحاول التخفّي كلاعب الدمى. فالاشتغال الطبيعي لدواليب المؤسسات يفترض وفاة طبيعية للرئيس، أو استقالة طوعية وهدوءا في ساحة البريد.. ولكننا في أزمنة ثورية. والثورة بما هي كذلك لا تعترف بدساتير الدولة الآفلة ولا بمؤسساتها.
كان صوت الجماهير هادرا: التغيير لا التدوير.
وكان ردّ العسكر ماكرا: التدوير هو التغيير !
واليوم نلاحظ بمقدار من التعجب كيف التجأ عسكر الشقيقة الجزائر إلى نفس حيل الالتفاف: تقديم نفسه كفارس الأحلام الثورية وعرّاب الساعين للتغيير، واختلاق أوهام الأجندات الأجنبية من أجل وأد الفعل الثوري تحت طائلة الخيانة.. ثم الاستفادة من ملف الفساد لكسب التعاطف كما يفعل صاحبنا الشاهد !.
ما يزرع بعضا من الأمل في التجربة الجزائرية أنها استفادت من التاريخ القريب.. وأنها امتلكت قدرا من الحصانة يمنعها من وضع كل بيضها في سلّة العسكريين.. وما يضاعف من هذا الأمل أن الجيش في سباق مع الوقت، إن لم يقطعه قطعه.. فهذا هو الوقت المناسب للالتفاف على الحراك من خلال إدعاء قيادته إلى برّ الأمان.. فإن فاته اليوم ضاع منه الغد.. وكل ذلك رهين اصرار الشباب الثوري على سوء الظن بالجميع، وأولهم قيادة الجيش.
الحراك الشعبي مازال طفلا يتعلّم مخارج الحروف.. أراد نطق حرف القاف، كناية عن رئاسة الأركان، فسبقت نطقه الباءات منفية ومكررة ثلاثا.. وفي الألسنية الحروف الشفوية دائما أسهل نطقا من الحلقية !!.
•••
بدا الوضع في السودان مشهدا هزليا بامتياز، وحمل قدرا من السخرية أكثر مما في مسرح موليار.. ابن عوف الذي تعافه العوام، يسرق الثوار شتائمهم ويرمي بها النظام !. نائب الرئيس يعزل الرئيس، ويضعه في موضع ابليس !.. والحق أن عبد الفتاح السيسي كان مُجتهدا في ميدانه وأكثر إبداعا، فقد أتقن الصياغة وأبدع في الإخراج.. حتى اختلط الأمر على بعضهم وتساءل: هل ما جرى ثورة أم انقلاب ؟.. أما صاحبنا عوض، فقد عاد بنا إلى بيانات الستينات، وفي ظنه أنه يخاطب جماهير الخمسينات !..
في سودان اليوم، لم يعد مقبولا وجه انقلابي لعامين كاملين، حتى ولو كان صاحب الوجه له اسم سوار الذهب.. الحراك الشعبي لن ينخدع مجددا بوعود عسكرية أخلفت مرات ومرات.. وسيواصل فعل الميادين بعد البيان الأول والثاني.. والعشرين..
ولكن السودان بلد له خصوصية جيواستيراتيجية تهدد الحراك، وقد تذهب به إلى بركة من الدماء، كما هو الشأن في مصر المشير..
الثقب الأسود لممالك النسيان لن يرض بدولة جارة، حديثة، مدنية وتامة الأركان.. وستمتلئ أكياس ابن عوف بالأرز الخليجي حتى يحكم قبضته.. ولكن اعتقادي أن ثقافة الاحتجاج والثورة قد تموت في شوارع القاهرة والاسكندرية، ولكن نارها لا تخبو أبدا في الخرطوم وأم درمان.
هكذا حدثنا التاريخ .

Exit mobile version