مواقع التواصل وخِطاب الكراهية
محمد شوقي الزين
نادراً ما يفلت الأشخاص في مواقع التواصل من خِطاب الكراهية
التواصل الاجتماعي على الشبكة هو عالم افتراضي أو اعتباري؛ فهو ليس الواقع الخارجي. منذ بداية الألفية، أصبحت الثورة التكنولوجية والرقمية هي «أنموذج» القرن في تنظيم الحياة البشرية على جميع الأصعدة الاقتصادية (السيولة المالية، البيع والشراء على الشبكة) والاجتماعية (التواصل) والسياسية (الإعلام بصُنع القرار). يوجد لذلك منابر مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«أنستغرام» بالنسبة للمواقع الاجتماعية والسياسية، والبنوك الرقمية بالنسبة للصفقات المالية والمبادلات التجارية. إذا كانت المجالات الحيوية من اقتصاد وتجارة تجد في الشبكة عزاءها لتتطوَّر وتنتشر، فإنّ المجالات السياسية والإعلامية والاجتماعية تغلب عليها الشعبوية والإشاعة وخِطاب الكراهية. جاء خِطاب الكراهية مُمكِناً للاعتبارات التالية: أولا: أتاحت الشبكة الهوية المجهولة لأعضاء التواصل الاجتماعي، لا أحد يعرفهم. يمكن أيضاً للعضو الواحد أن يفتح عِدَّة حسابات بهُويات مُستعارة. بحكم الطابع المجهول لمواقع التواصل الاجتماعي (anonymat)، فإنّ كلّ عضو يمكنه أن يدلو بأيَّة إشاعة وبأي خِطاب، بما في ذلك خِطاب الكراهية. لا يخشى شيئاً ما دامت هويته مجهولة.
ثانيًا: خِطاب الكراهية لدى عامة الأعضاء في مواقع التواصل الاجتماعي، ويغلب على هذا الخِطاب الشتم والتخوين والتكفير، بإيعازٍ من أيديولوجيات أو حساسيات سياسية أو دينية. المعارك الفيسبوكية هي في الغالب محمومة، تنفجر فيها العواطف والردود المُنفعلة ويقل الهدوء العقلي والتعليل المنطقي. بحكم الهويات المجهولة، فإنّ الردود تُضاعف من قسوتها وعنفها؛ تلجأ إلى التشهير، بالبحث في الحياة الخاصة للشخصيات عمَّا يُشبع إرادة الانتقام والتشفي. ثمّ إنّ الإشاعات والمعلومات الكاذبة (fake news)، دون تريُّث أو تحرٍّ، تزيد من حدَّة الانتقاد والتهجُّم. يمكن القول بأنّ مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت منابر للتنفيس أكثر منها فضاءات للتواصل والتبادل؛ يغلب عليها رفض الآخر والقدح في عِرض الناس والتشكيك في نواياهم.
ثالثا: خِطاب الكراهية لدى النخبة تُجاه العامة. وإن كانت غالبية النخبة تتحلَّى بالتعقُّل وبآداب النقاش وتعرض معلومات أو أخبار تتيقَّن من مصدرها ومن صحَّتها، إلاّ أنّ عدداً لا يُستهان به من النخبة يسقط في فخ الكبرياء. هذا ما لاحظناه مثلاً في الموقف من الحراك الشعبي، حيث لم يتوانَ بعض الباحثين والأكاديميين في وصم الجموع بالغوغاء والسفلة والأحمرة والقطيع، من وراء الكلمة الدارجة «روجي». من واجب النّخبة مُصاحبة هذه الجموع، فهم متطلباتها وفهم قصديتها، وليس التهجُّم عليها والتهكُّم منها. الخِطاب الأيديولوجي الراديكالي لدى بعض المثقفين (من أيَّة وجهة كان: عروبي/فرنكفوني، علماني/ديني، ثوري/ محافظ…) عبارة عن عائق في فهم أبجديات هذا الحراك. يتلخَّص موقفهم في الطعن في مصداقيته وإرجاعه إلى قِوى خفيَّة تُحرّكه؛ الكل في أسلوب يغلب عليه الاستهزاء والاستخفاف.
رابعا: خِطاب الكراهية لدى النخبة فيما بينها: كذلك، يعمد بعض المثقفين إلى الطعن في زملائهم، إمّا لعدم اصطفافهم مع الحراك الشعبي، وإمّا للاصطفاف وراءه والدفاع عنه. في الحالة الأولى، هناك التخوين؛ وفي الحالة الثانية، هناك التأثيم بالانسياق وراء «القطيع». نجد أنفسنا أمام معركتين: (أ) معركة من يثق في الشعب ضدَّ النخبة؛ (ب) معركة من يطعن في الشعب. في الحالة الأولى، يستحضر المثقف خِطاب السرديات بالتغني بأصالة الشعب وهويته وثوابته وتاريخه البطولي والثوري، ويفتح النار على من يسميهم بالنخبة المستلبة الداعية إلى العلمنة والتغريب؛ في الحالة الثانية، يلجأ المثقف إلى خِطاب التخويف بأن يُوازن بين «الشعب» و«الطفل»؛ شعب قاصر لا يعرف مصالحه؛ شعب جاهل يميل بطبعه إلى التطرُّف الديني، وينبغي قيادته بالسوط والقوة.
عندما نتأمَّل جيّداً، نجد أنّ نادراً ما يفلت الأشخاص في مواقع التواصل الاجتماعي من خِطاب الكراهية، لأنّ لهم مبادئ يدافعون عنها أو ينضوون تحت راية أيديولوجية مُعيَّنة، تُعميهم عن رؤية الواقع بمسافة نقدية وموضوعية. تكمن الخطورة في أنّ السلوك تُجاه الواقع والموقف من هذا الواقع قد يسقطان في نوعٍ من «الفصامية»، بالتهجُّم السهل في مواقع التواصل الاجتماعي والتزام الصمت جُبناً وتقيةً في الواقع الحقيقي. في نهاية المطاف، يُشبه العالم الافتراضي عالم الخيال الّذي تتضاعف فيه الهويات ويمكن تلفيق كلّ تهمة أو صورة في حضنه. الرهان في مجاوزة خِطاب الكراهية هو الخروج من المُتخيَّل الفاسد من اصطناع الذات نحو الواقع المُباشر لمواجهته بالشجاعة الفكرية والفكرة البنَّاءة. ما عدا ذلك لغطٌ ومتنفَّس.
موقع “النصر”