المعلّبات الفاسدة للزّمن البائد

عبد اللطيف علوي
بعضهم يكتشف جملة أو “كليشي” سياسي جديد فلا يكفّ عن ترديده بكلّ زهو وثقة في كلّ “مَجْبَدٍ”. هو بالنسبة إليه جديد كلّ الجدّة تراه فرحا به كما يفرح طفل صغير بكسوة العيد، لا يكفّ عن التّباهي بها والنّظر إلى أطرافه بإعجاب حين يمشي أو حين يجلس. 
لكنّها في الحقيقة من المعلّبات الفاسدة القديمة للزّمن البائد، عبوات ناسفة زرعت في العقول منذ عقود، أفكار من ثقافة الاستبداد والغاية منها تجريم السياسة وترذيلها إلاّ للممسك بالحكم، فيصبح الكرسيّ مكرمة وشرفا للجالس عليه، ومعرّة وخطيئة للساعي إليه.
بعض الأصدقاء، وحتّى “الأعدقاء”، ينصحونني من حين لآخر بأن أترفّع عن الخوض في السّياسة، وأن أخصّص وقتي الثّمين كلّه، ككلّ الشعراء الحقيقيّين، للتّأمّل والهيام مع النّسيم العليل والذّهول مع النّجوم والتّحليق في سماء الجمال والزهور والطّيور والفراشات كي أبدع شعرا جميلا رومانسيّا رقيقا محايدا (تكنوقراط يعني)… 

• هؤلاء المتطوّعون لنصحي حجّتهم قويّة دامغة بأنّ الشّعر أرقى من السياسة، والشاعر أو المبدع عموما (وربّما حتّى المثقف بشكل أعمّ) يجب أن يتعالى عن السياسة باعتبارها نجاسة، ويجب أن يعيش في حالة عذريّة كاملة مع أحلامه وأوهامه دون أن يفسدها بمنطق إدارة الحياة العامة اللّعينة… ويحتجّون كذلك بهذا القول لسارتر وذاك القول لميكيافيلّي وخاصّة (وهذا الأشنع) بمقولة القذّافي المأثورة “من تحزّب خان” وهلمّ جرّا…
السياسة مثل كل نشاط بشريّ، يدخله الأنجاس فينجّسونه ويدخله الطّاهرون فيطهّرونه، سياسة مانديلا ليست سياسة بشار والسيسي، سياسة المرزوقي ليست سياسة بن علي، وسياسة الملك فيصل القوميّة ليست سياسة من خلف بعده من براميل النفط والخيانة الخليجية، وسياسة رئيس الأوراغواي الأسبق، الأفقر في العالم والذي كان يتبرع بـ 90 بالمائة من راتبه للجمعيات والفقراء ويعيش في كوخ إلى اليوم، ليست سياسة من باع الدنيا والآخرة ووضع ثمنها في بنوك سويسرا…
كلمة من تحزّب خان هي أيضا عبوة ناسفة من بقايا ثقافة الاستبداد، وهي من مأثورات القذافي، السياسة في العالم كله (الديموقراطي) تقوم على التنافس بين الأحزاب، لكنّ الأنظمة الشمولية تريد تجريم الانتماء للأحزاب وممارسة السياسة بحجج مسمومة مثل الوحدة الوطنية أو الولاء لشخص واحد معصوم (مثل بورقيبة أو عبد الناصر أو القذافي)..
لا توجد ديموقراطية بدون أحزاب، والمطلوب هو ترشيد العمل الحزبي والارتقاء به قدر ما أمكن لخدمة المصلحة العامّة، وهذا يتطلّب ثقافة الحرية ويحتاج إلى بناء تلك الأحزاب على ثقافة جديدة غير التي تربّينا عليها في ظلّ الاستبداد.

#عبداللطيفعلوي

Exit mobile version