طين الله
الطيب الجوادي
بعد ساعة عدنا بأبي إلى البيت، ظلّ صامتا طوال الطريق، ترى فيم كان يفكّر؟
هل هو نادم على شيء؟ هل يخشى النهاية؟ لا بدّ أنّه يسترجع الآن شريط حياته، لقد كان دائما صندوقا مغلقا، ظرفا مختوما بالشّمع الأحمر، كان يحرص على الانطواء في عوالمه الخاصّة، والإنكفاء على ذاته، ولم يكن يسمح لأحد مهما كان أن يتخطّى السياج الشاهق المسنّن الذي أحاط به نفسه، وكان يمتلك قدرة عجيبة على تشرّب الحزن والفرح كما تتشرّب الأرض البور ماء المطر، بدون أن يظهر أثر لحزن او فرح على صفحة وجهه،
ولكنّك لم تحسب حساب الضعف والوهن والمرض يا أبي،
بالغت في الحرص على كبريائك، حرصا حرمنا من ضعف نستحقّه منك،
لماذا لم تضعف يا أبي، فنتسلّق ظهرك، ونعبث بلحيتك ونتبوّل في حجرك، ونحطّم أشياءك الثمينة مثلما يفعل كلّ الأطفال، ونتحدّث إليك بمغامراتنا الصغيرة وأحلامنا المُجنّحة مثلما يفعل كلّ المراهقين
كان أخواتي البنات يلتجئن إليّ أنا أخاهنّ الوحيد في كلّ ما يحتجن فيه إلى أب ويتجنّبن الاقتراب منك أو البوْح لك بشيء، أمّا أنا ابنك الوحيد فلم أكن أجد في أحيان كثيرة الأب الذي ألتجئ إليه، كثيرا ما أفتقدك وأنت على بعد خطوات منّي يا أبي،
هل أثني على المرض لانّه خلّصك من كبريائك؟
أشعر اليوم أنّني أكتشفك من جديد،
عندما وصلنا للبيت وجدنا كل الدوّار في انتظارنا، تخلّف فقط من غيّبهم الموت في المقبرة القريبة المحاذية للجبل، سارعوا إليه بمجرّد نزوله من الشّاحنة يحتضنونه ويقبّلون يديه وجبينه ويدعون له بسرعة الشفاء،
يسري في روحي دفء غامر يحلق بي في السّماء السابعة وأنا أراهم يحيطونه بكلّ هذا الحبّ،
محظوظ أنت يا أبي، أنت تمتلك العالم اليوم، وليس قلوب هؤلاء القرويين وحدهم،
حاولت أن انفرد بيمّة، ولكنّها نهرتني وطلبت منّي أن أنتظر حتى ينصرف عُوّاد أبي، كنت أريد أن أعترف لها، أنّني، منذ علمت بمرض أبي أعاني من ظاهرة غريبة لم أتحدّث عنها لأحد: شيء ما يدبّ تحت جلدي، شيء يشبه النمل، أحسّ به يجوس في شراييني، كنت أريد أن أسألها: من أين تسرّب النمل لجسدي؟
عندما انفردت بها في آخر الليل، تعمّدت ألاّ أسألها عن دبيب النّمل تحت جلدي،
ولكن دبيب النمل كان حقيقة، ولم يتوقّف دبيبه تحت جلدي بعد ذلك أبدا،
يا إلاهي الذي في السّماء طينك يحترق، يتشقّق، يتفتّت!
من عوالم روايتي الجديدة “طين الله”