النهضة، هل هي من الثورة ؟ أم من شهود الزور لوأدها ؟

أبو يعرب المرزوقي
لما ربطت حركة النهضة مصير حركة النهوض الإسلامي في تونس بضرورة المشاركة في الحكم بأي شروط كان وكانت هذه الشروط تمر حتما بالمافيات الداخلية ومن يسندهم من الخارج فإن هذا العمل صار عندي أخطر من عمل أي حركة سياسية أخرى على الأمة حتى من ألد أعدائها.
فعندي أن الاستفادة من مناخ الثورة الذي لا يستطيع أعداؤها اليوم مجابهته للتجذر في المجتمع بأبعاد الفاعلية التي تؤسس لكل عمل سياسي في الحكم بالبقاء في المعارضة النزيهة التي تؤيد ما تراه لصالح البلاد وتحجم عن التأييد لما تعتبره ضارا بها دون أن تتجاوز التعبير والمشاركة السياسية وأنشطة التجذير الفعلي في حياة الشعب الاقتصادية والثقافية.
ذلك أني اعتقد أن كل أعدائها هم الآن بحاجة إليها لتمرير خدعة العمل في إطار الثورة التي تستكمل التحرير وتشرع في التحرر. وهم يحتاجون لمظلتها لهذه الغاية وخاصة لغاية مسح القدمين بعد انهاء مهمة الخداع ليحملوها مسؤولية كل المرحلة الحلية من الثورة إلى يوم يخرجونها من الحكم نهائيا وهو ما يسعون إليه في الانتخابات المقبلة. لذلك فهم يعدون لإسقاطها أولا بتوسيخها لتفقد شرعيتها وثانيا لنيل ما يريدونه منها. وحتى إذا سقطوا قبلها فستسقط معهم. وإذا نجحوا فسيكونون ألد أعدائها وسيعملون فيها أكثر مما عمل ابن علي وقبله بورقيبة. وإلى الآن ما زلت لا أفهم ما يجري في فكر قيادتها. لن ينالها مما تفعل الآن إلا ما سيترتب على التشويه الذي يحصل لها واضطرارها إلى التطبيعين:
1. مع إسرائيل ولوبياتها في الولايات المتحدة.
2. مع فرنسا ولوبياتها في تونس وهي مافيات.
لكن ذلك لن يشفع لها بمجرد أن يتمكن العائدون من النظام السابق والمتعاملون معه من اليسار والقوميين كما في عهد ابن علي. وكنت سأفهم السلوك الحالي للنهضة لو أنها تتعاون مع الحكام بعقد صريح حول مبدئين:
1. التزام علني أمام الشعب بحكم مشترك تحترم فيه الأساسيات في مرجعيات المشاركين فيها.
2. برنامج عمل إصلاحي يحقق أهداف الثورة ولا يعيد النظام السابق كما هو جار بغطاء واضح منها تحت عنوان مصلحة الوطن.
فما يجري في عمل رأسي الدولة -المستعمل الأول لمظلة النهضة والمستعمل الثاني- وفي المعارضات كلها هو الاستعداد للقضاء على ما يسمونه الإسلام السياسي وهو ما يعني أن الامر ليس مقصورا عليهم بل هو حلف جلي مع الثورة المضادة وسندها من أعداء الامة الأربعة: إسرائيل وإيران وفرنسا وأمريكا.
ولست ساذجا فأطلب من حركة بحجم النهضة التصدي لكل هؤلاء.
ما أطلبه ليس التصدي بل عدم التورط معهم فتكون هي التي مهدت لهم عملية الخداع الجارية والتي تجعل من يدعي الحرب على الفساد قائدا للفسدة في ا لمرحلتين مع السبسي ومع الشاهد: فهما يمثلان المافية التي عينتهم وأعانتهم ولا علاقة لهما بالمصلحة الوطني.
والبعض يفسر هذا السلوك بالخوف من تكرار ما حصل لأتباعها في العهدين السابقين. لكني أعتقد أن الأمر لو كان كذلك لحصل العكس تماما: ذلك أنها في المرتين السابقتين كانت على الأقل رابحة قلب الشعب الذي كان يعلم أنها مظلومة. أما لو حصل شيء بعد الآن فالجميع يعتبرها ذهبت لحتفها بظلفها.
فحتى يمرر خصوم الثورة لعبتهم كانوا لو أحجمت النهضة عن المشاركة في الحكم الذي لم يعطها أي دور فيه وأي قدرة على حماية أسس وجودها سيكونون عاجزين عن منع التطبيع البطيء والثابت بين الحركة الإسلامية والنمط المفروض على الشعب والذي لم يعد بالوسع مواصلة فرضه حتى في عهد ابن علي.
فابن علي نفسه اضطر إلى مراجعة الحرب على ثقافة الشعب بدليل ما حاول القيام به عن طريق صهره من مصالحة مع الرموز وكذلك محاولاته للصلح مع الكثير من نخب الإسلام السياسي الذين لم يكن لهم هوس المشاركة في الحكم قبل أن يصبح التطبيع أمرا مؤثرا حقا في ثقافة النخب.
فلو لم يكن سند الطغاة في الحكم صادرا عن المؤسسات التي للنخب التي تدعي أن للشعب التونسي ثقافة أخرى غير التي يمارسها أكثر من 90 في المائة منه والتي تجلت خاصة بعد اكتشاف حال البلاد التي كانت تخفيها الفترينة لكان من العسير على أجهل النخب تقود البلاد على حتفها من أجل خدمة المافيات.
فوضعنا لا يختلف عن وضع الجزائر أو مصر أو أي بلد عربي آخر: فما يسمى بالنخب التي تدعي الحداثة والتي تستعمل مؤسسات الدولة والاتحاد وما يسمونه المجتمع المدني ليس من أجل خدمة استكمال التحرير والشروع في التحرر هي نوع من البلطجية التي تستعملها المافيات في الإعلام وفي الشارع وفي أجهزة الحكم.
وقد تكون الجزائر قادرة -وإن كنت أشك في قدرتها- على استكمال التحرير والشروع في التحرر. لكن تونس أضاعت الفرصة وأعتقد بصورة نهائية إلا إذا نجحت الجزائر ومكنت الشباب التونسي من استئناف الثورة في موجة ثانية تقتلع رؤوس الفتنة بمنطق المصالحة وحصر المحاسبة فيهم بصورة صريحة وعلنية.
وأزعم أن عبير موسى إذا نجحت حتى في الوصول إلى تمثيل جزء كبير من الدساترة فالسبب هو سلوك قيادات من النهضة بحمقهم في الحرب على بورقيبة بمعنى عمل السياسة ليس بفكر من يفكر في المستقبل بل بفكر من لم ينس الماضي لكأنه يفضل مواصلة المعارك مع الموتى بدل طي الصفحة.
من أحيا البورقيبية في تونس ليس البورقيبيون بل من أرادوا استئناف المعارك مع الموتى فأحيوهم. وقد حذرت من ذلك وطلبت العكس تماما: وهو الاكتفاء باعتبار الرجل رمزا تونسيا لا خلاف حوله فتقلب الصفحة بما سميته المصالحة بين الثعالبي وبورقيبة والتفكير في المستقبل بدل عقلية التشفي.
ذلك أن الهوس في المشاركة في الحكم بدل البناء المديد وذي النفس الطويل سيضع التونسيون بعد المقارنة بين ما حصل بعد الثورة وما حصل في عهد بورقيبة وحتى ابن علي رغم الفارق الشاسع بين الرجلين لصالحهما وتحميل النهضة كل المآسي التي لا ناقة لها فيها ولا جمل لمجرد أنها شاركت كـ «شاهد ما شافش حاجة».
ما أتوقعه وما أراه جاريا حاليا إذا تواصل ولم تحدث معجزة الجزائر هو أن الجميع سيتحالف لإخراج النهضة من المولد بلا حمص حتى لو افترضنا أن النهضة حافظت على الوزن الذي كان لها في بداية الثورة وهو أمر مستبعد جدا وحينها كل أوهام البلديات وقصور الرمل من الاشعاع الخارجي سيتبخر.
ومرة أخرى سيعترض علي: وأنت ما دخلك؟ فلا أنت عضو في هذا الحزب ولا أنت إسلامي ولا أنت وصي على الشعب. وقد تعودت على سماع ذلك وخاصة على سماع العبارة المشهورة “من يخرج من النهضة” لا وزن له ناهيك عمن لم يدخل فيها. لكني مع ذلك أعتقد أنه من حقي أن أدلي بدلوي في الشأن العام.
ولما كنت شخصيا لا أومن بأن تونس دولة ولا أي بلد من بلدان الإقليم دولة بل هي كلها محميات فإن إدلائي بدولي لا يقتصر على تونس. وإذا تكلمت في شأنها فمن منظور دورها في مصير الاقليم ككل. ذلك أن الإسلام السياسي -كما عرفته في العديد من المحاولات وليس كما فهمته حركة الإخوان- بخلاف ما يتوهم الكثير ليس أمرا مضى بل هو مستقبل الإقليم رغم أنف الجميع.
والأعداء يعلمون ذلك. ولذلك فهم لا يحاربون غيره. هم يحاربونه في تركيا وفي سوريا وفي العراق وفي مصر وفي الجزائر وفي ليبيا وفي اليمن وفي تونس. وليس لأنه إسلام فحسب بل لأنه هو أقوى أساس لصمود الإقليم لكونه يمثل الوحدة الثقافية العامة حتى عند من ليس منه إذا كان إنسانا كريما وحرا.
وختاما فإني لن أقبل أن أسكت عما آل إليه دور النهضة: مظلة للقضاء على الامل الثوري لأنها بالمشاركة في الحكم وخاصة بمساندة السبسي الذي لا يمثل الدساترة ثم الشاهد الذي لا علاقة له بالدستور إلى ما عينه هو نفسه أي بخال أمه ساهمت في إطالة عمر المافيات والفساد الذي سيعيد الاستبداد.
وإذا لم تتدارك قيادات النهضة الشابة بجنسيهم الحركة فمآلها التحول إلى شاهد زور على ما يجري وهي من ثم قد أمضت نهاية شرعية الانتساب إلى حركة متجاوز للحدود الإقليمية وستصبح حزيبا لا يختلف عن الأقزام الحزبية التي نراها في الساحة لأنها من دون شرعية المشاركة في استئناف الأمة لدورها الكوني لا شرعية لها.
لقد آن أوان حركة تصحيحية جذرة وإلا فليقرأوا على النهضة السلام لأنها ستصبح نسخة فاسدة ممن عملت معهم بعد أن “وسخوها” بالتعامل مع المافيات التي أوصلتهم إلى الحكم وروضت الإسلام السياسي ببعض الفتات من الحكم حتى تستعملهم مظلة تعطي بعض المصداقية لنفي انتسابهم الفعلي للثورة المضادة.
لكن هذه الثورة المضادة ما أن يكتمل لها استرداد سلطانها سترمي جانبا لعبة خدمة الثورة في تونس لأنها تعد لحلف كبير بمشاركة كل عملاء النظام القديم في الانتخابات المقبلة للاستغناء عن خدمات النهضة. وإذا لم تسارع الآن بالانفصال عن الشاهد حتى يسقط وتتغير الخارطة فإنها ستكون قد مكنتهم من رقبتها بهذا السلوك الذي لم أجد له أدنى تفسير.
ولعل القطار قد فاتهم ولم يعد التدارك ممكنا لأن الحلف بين كل الأحزاب قد بات ممكنا وكل أجهزة الدولة بيدهم والاتحاد مستعد للتحالف معهم. وحتى النداء فهو مستعد لركوبه خوفا من أن يصبح حزب الدستور خطرا عليه: فدور هذا الحزب لن يتجاوز أحد عناصر التوحيد بين المعارضات التي تعتبره خطرا عليها مثل النهضة. وهو الفرصة التي فرطت فيها النهضة عندما تحولت إلى دونكيشوت تحارب خيالات الموتى التي مثلت نواعير طواحين الفكر العقيم.

Exit mobile version