أبو يعرب المرزوقي
لست أدعي علما بمكة أكثر من أهلها. لذلك لن أدعي الحق في نصح الجزائريين. لكن من حقي بصورة عامة أن أنبه إلى خطرين قد يفسدان النجاح الباهر الذي حققته الجزائر في ثورتها التي تجاوزت كل التوقعات من حيث السلمية ومن حيث السلاسة في البلوغ إلى البداية الجيدة للتغيير: يهددان البداية الفعلية.
فالشعب الجزائري تمكن من الوصول إلى نقطة البداية الفعلية للثورة. ويمكنه الآن أن يتجاوز المرحلة السلبية الأولى من فعل كل ثورة: إزالة فاعلية المعيقات الظاهرة. والبداية هي الشروع في المعيقات الباطنة. وهذه هي التي وصفها القرآن الكريم في الأنفال 60 بتحديد نوع الاعداء فيها: إنهم أولئك الذين لا نعلمهم مسبقا ونكتشفهم بالتدريج.
والله يعلمهم. لكنهم ليسوا من الغيب بل هم مما تقتضيه السنن التي ينساها الناس ويذكر بها القرآن. فالأعداء حينئذ لسوا من أعدائنا ولا من أعداء الله بل هم من عداوة الإنسان لنفسه عندما يقع أمام الخيارين اللذين بسببهما يقتتل الناس وكلهم يتوهم أنه على حق. وهما بعدا اللقاء بين البشر لما يوجدوا في الخيار بين موضع التسابق في الخيرات أو التنافس على الشرور. وقد حددتهما سورة الشورى في الآية 38 عندما عرفت المجال السياسي ببعديه الروحي والمادي:
1. فهي بدات بالروحي (الذين استجابوا لربهم).
2. وانتهت بالمادي (ومما رزقناهم ينفقون).
والعائقان اللذان يمكن أن يفسدا ثورة الجزائر وقد وقعت فيهما التجارب العربية السابقة بدءا بتونس هما من هذا الجنس. فلو انتقل الجزئريون مباشرة إلى ما يدعوهم إليه الكثير من “المنبرين” الانتخابات وصياغة دستور أعني أداتي البدء السياسي الذي يتصوره الكثير نهجا مضطرا وحتميا فإن الخلافات بينهم ستكون إما حول الخيارات القيمية والهويات أو حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعيات. فينفرط عقد الوحدة التي لولاها لما أنجز الشعب ما حصل. وحينئذ ستطغى الأفخاخ الاربعة التي سبق أن نبهت إليها الأخوة في الجزائر في مقال سابق. –رابط المقال–
فما أنجزه الشعب الجزائري وما اعتبره البداية الحقيقية للانتقال من الوجه السلبي في كل ثورة -وهي ولله الحمد مرت بسلام ولم يكن السلب فيها طاغيا كما في سوريا مثلا- هو وحدة الشعب الجزائري حول البداية أي التخلص من المعيقات الظاهرة. فإذا قدموا ما يزيل هذه الوحدة فلن ينتصروا على المعوقيات الباطنة.
لا بد إذن من رفض مقترح الانتخابات السريعة وخاصة صوغ دستور جديد الآن. فهذان المطلبان فخان يمكن أن يحققا النكوص إلى النقطة صفر التي حالت دون حصول ما حصل أي وحدة الشعب التي انجزت ما نراه شبه معجزة بينت أن الجزائريين متقدمون حتى على من ظل يستعمرهم بأيدي أبنائهم منذ الاستقلال الصوري.
والعلاج ممكن وقد نصحت به “اهل الحل والعقد” في ثورة تونس لكن لم يسمع أحد فوقعوا الفخين: الانتخابات ثم الدستور. صحيح أن هذين الأمرين لازمان. لكن ليس في البداية ومباشرة. لا بد من تثبيت أقدام التغيير الأساسي أو وضع حجر الأساس. والحل هو أن يحصل إجماع جزائري حول حكماء نظاف عرفوا بالكفاءة والأخلاق.
وهم كثر ليكونوا محققين للصلح بين الجزائريين وخاصة إذا تم ذلك مع احترام التثميلية في كل المناطق وكل الحساسيات السياسية -بمعنى معتبري الزمان أو أفاضل الأعيان (مصطح وضعه الغزالي في فضائح الباطنية) دون تنافس مقيت لن يكون من جنس التنافس الديموقراطي في البلدان ذات التقاليد الديموقراطية.
صحيح أن الكثير تصورني ساذجا عندما اقترحت الصلح قبل المحاسبة بدل المحاسبة قبل الصلح بداية لإعادة بناء الدولة خاصة والخدمات الأساسية لضمان شروط الحياة المادية والروحية (الرعاية) وشروط الحياة الأمنية الداخلية والخارجية (لأن الجزائر مستهدفة في دورها ويراد نزع سلاحها خاصة وهم يتهمونها بأنها تسعى للحصول على شروط الردع النووي). وهو ما ينبغي شرحه.
ولا بد هنا من الإشارة إلى عاملين يهملهما المحللون: أولا الفساد له قادة لكنه ظاهرة عامة في المجتمعات عامة العربية خاصة. فلو بدأت بالمحاسبة لاستحالت أولا ولخوفت الجميع لأن الجميع عنده قسط من الفساد إما مباشرة أو بصورة غير مباشرة. لكن المصالحة تطمئن الصغار فيسهل عقاب الكبار.
وثانيا وهذه قضية حقوقية عامة وهي من الاستراتيجيات السياسية بعيدة المدى والغور: فالمصالحة مسألة تشمل النظام العام وتتعلق باستعادة وحدة الجماعة والتقليل من أعداء الثورة. والمحاسبة قضية جنائية وتتعلق بالمسؤولية وهي لا تكون إلا فردية. لكن لما تصبح موفقا عاما دون تحديد فهي أكبر تهديد للنظام العام بسبب ما يتولد عنها من أدواء اخطر من الفساد والاستبداد كما سيتبين.
أما إذا اطمأن الصغار ممن كان فسادهم تابعا لفساد الكبار إما طمعا أو خوفا -وهم الأغلبية التي إذا خافت صارت سندا للكبار- أمكن عزل الكبار وحسابهم بالقانون دون حاجة لمعارك جانبية تفسد شروط تحقيق ما لأجله قامت الثورة. ففي الجزائر التي تساوي ديموغرافيا أربعة مرات تونس يمكن بهذه الطريقة حصر ما دون الألف مجرم يترك أمرهم للقضاء.
ويتم الإعلان عن طي الصفحة للجميع والشروع في عهد جديد يجب ما قبله. ويمكن الاعتماد على هؤلاء الحكماء حتى يطبقوا ما طبقه الرسول بعد فتح مكة. ولولا ذلك لما بقي للإسلام دولة بل لما نشأت اصلا أعني أن الرسول الأكرم لم يحقق إلا الإعلام بمشروعها ووضع حجر الأساس بدستور هذه غايته.
فهو حدد المبدأين: شروط الرعاية الجماعية وشروط الحماية الجماعية وحيد المسألة الدينية (التعايش والاحترام المتبادل بين الأديان وحتى بينها وبين الشرك في المدينة) والمسألة الاجتماعية التي تركها للمجتمع الاهلي حتى يحقق شروط العيش المشترك حتى تتحقق الشروط المؤسسية للدولة.
وهي بعد الأول أربعة شروط تحقق جلها بعد وفاة الرسول. فالثاني هو تحديد طبيعة الحكم وأسلوبه قبل أن يوارى الرسول التراب (الخلافة) والثالث هو توحيد المركز المكاني أو الحيز الجغرافي (أبو بكر بعد حرب الردة) والرابع هو البداية الزمانية أو الحيز التاريخي (ابن الخطاب واختيار الهجزة) والأخير هو توحيد الرجعية (جمع القرآن: المصحف العثماني).
وطبيعي أن يكون الشرط الأول هو المشروع وهو الرسالة نفسها بمستوييها أي القرآن والسنة التي هي تعليم الرسول للقرآن لتكوين النخبة التي حققته بعده. ولو اعتبرنا ما سيحدث في الجزائر قابلا للقيس بهذا مع الفارق طبعا لأن ما حدث فيها قبل هذه الثورة المباركة جاهلية جهلاء وتبعية عمياء لعملاء فرنسا.
أما لو عكسنا وتوهمنا تطبيق المحسابة قبل المصالحة فإن ما سيحدث فضلا عن الحرب الأهلية التي لا بد واقعة باردة كانت أو حارة بين “المصلحين” الذين سيحاسبون غيرهم فإن المحاسبة ستكون مستحيلة لأن الكل عنده ما يخاف منه قليلا كان أو كثيرا قد يتولاها أكبر المجرمين بالمزايدة في المحاسبة.
ولا شيء يحول دون المتوقع: فالمحاسبون يمكن أن يجعلوا المحاسبة أداة ابتزاز وحكم واثراء ومن ثم فهم على الاقل بالقوة حلفاء الفاسدين الذين سيشرونهم ببعض ما سرقوا. وعندئذ يصبح أكبر السراق قيادات تحكم باسم الثورة وهو أعداؤها وذلك القصد بمن لا نعلمهم من الأعداء.
لكن الأخطر من ذلك كله هو أمران يصحبنان ما يسمى بالمحاسبة وقد حدثا في ليبيا وفي العراق وكادا يحدثان في تونس:
1. الانتقام يصبح بديلا من المحاسبة العادلة التي هي من أعسر الظاهرات في تاريخ الأمم وخاصة إذا كانت على ما هي عليها من أخلاق الاستبداد والفساد.
2. تلفيق التهم من أيسر الأمور فتصبح دعوى محاسبة الفاسدين أهم أدوات الأفسدين في الحكم باسم مكافحة الفساد. واليوم تونس شاهدة على ذلك.
لا بد إذن من مرحلة انتقالية يكلف بها رجالات لهم ما وصفت من الصفات من جنس ما فعل أبو بكر وعمر وعثمان فهؤلاء تمكنوا من وضع المؤسسات التي من دونها لم يكن بوسع المسلمين أن يصبحوا ذوي دور كوني.
وأنا أعتقد أن الجزائر لو حسنت رؤاها لكانت ألمانيا الغرب الإسلامي كله ومعه افريقيا كلها.
ذلك أنها إذا نجحت في ثورة التحرر وأحيت قطب المغرب الكبير وأضافت رمزية ثانية إلى رمزية تمثيلها ثورة افريقيا على الاستعمار ونجاحها في إدخال الأمة إلى الرمزية الثورية ضد الاستعمار الغربي فإنها ستكون قائدة استعادة افريقيا كلها لسيادتها ولجعلت الأمة تصبح ندا لعمالقة العالم بالأفعال وليس بالأقوال.
فمن دون رسالة كونية ستنغلق على تصفية حسابات داخلية لا تختلف عن الحروب الأهلية الباردة وقد تسخن كما يحدث في بلاد الربيع كلها. وليس ذلك قضاء وقدرا بل هو بسبب فقدان الاستراتيجية التي تجعل الشعوب مشدودة لمثل عليا تتجاوز المطالب المباشرة: فلولا رسالة الفتح وما يؤسسها من طموح كوني لأدت حرب الردة إلى عود العرب إلى الجاهلية ولم يصبح للإسلام حضارة عالمية.
وختاما فلا يمكن لشعب أن يصبح بحق ذا دور كوني إذا لم يكن له طموح كوني. المحاسبة قبل المصالحة ديماغوجيا أصحابها ملتفتون إلى الماضي ليحولوا دون المستقبل باسم ثورة هم بهذا أكبر أعدائها لأنهم به يجعلون رهن معارك الماضي وليس ريادة في معارك المستقبل. ذلك رأيي أقوله للجزائريين ليتجنبوا الأفخاخ.
ودون أن ادعي الخبرة العسكرية فإني أعتقد أن فرنسا -التي خسرت قوة حركييها في الجزائر- وجدت الجارين تونس والمغرب رافضين لمساعدتها في إعاقة الثورة الجزائرية ففكرت في حفتر. وقد تكون هذه فرصة لجيش الجزائر المنيع أن يلقنه درسا هو رسالة موجهة لفرنسا وللثورة المضادة. وآمل ألا يفرط قادة الجيش إذا كانوا بحق مع ثورة الشعب الجزائر بانتهاز هذه الفرصة: فهي شرط لامن الجزائر وتونس. لأن حفتر عميل لحلف بين فرنسا الاستعمارية والثورة المضادة العربية. وإذا لم يسارع الجزائرون لمنع ما يجري في ليبيا حاليا فالثورة في تونس وفي الجزائر ستضرب من هذا الباب. فإسرائيل أيضا لهذا دور في هذا الحلف ضد الثورة الجزائرية لأن عينها خاصة على ما تسعى إليه الجزائر من قوة الردح لأنها تريد أن يبقى اهل الاقليم كلهم عزل حتى تكون هي المسيطرة بالسلاح النووي. وعلاقتها بالجزائر شبيهة بعلاقتها بتركيا في هذا المضمار.