محليات تركيا الدلالات العميقة وبشائر الحقيقة
أبو يعرب المرزوقي
كيف أفهم حصيلة الانتخابات المحلية في تركيا؟
ولماذا أعلق على الأمر رغم أني ليست من أصحاب التعاليق على الظرفيات عامة وعلى ظرفيات السياسة خاصة؟
ومع ذلك فكلما تعلق الأمر بما يتصل بشروط الاستئناف المباشرة لا بد أن أدلي برأيي لما للأمر من علاقة بالثورة في الإقليم كله ومن ثم باللقاء شبه الإعجازي بين ماضي الأمة كله ومستقبلها كله: وذلك هو ما يجعل الحدث فريد النوع.
فما يجري في تركيا، فضلا عن أن تركيا كانت المركز الذي بضربه تم ضرب الإقليم كله ودور الإسلام في التاريخ الكوني كله خلال الحرب العالمية الأولى، ومن ثم فهي قلب الإقليم منذ تكون الخلافة العثمانية بخيرها وشرها ككل حكم في التاريخ الإنساني، فإنها قد عادت لهذا الدور وسوريا والعراق ولجوء كل الثوار إليها إلى أدلة قاطعة.
تركيا لا تضرب لأنها تركيا القطر بل لأنها تركيا القاطرة.
ومن ثم فالتعليق على ما يجري فيها وخاصة إذا استعملت قراءاته المزيفة لتثبيط العزائم وتصوير الأمر وكأن الحزب الحاكم خسر الانتخابات لأنه ربما خسر أكبر عاصمتين في رئاستها وليس في مكونات مجالسها التي ستترتب على حقيقة الأمر الفعلي.
ولهذه العلة فما أكتبه ليس على الحدث في حد ذاته، بل على دلالة محاولات تزييفها من أجل بيان الدلالة العميقة لما جرى وخاصة إذا نظر إليه بعين التاريخ المديد وليس القصير. وأعتقد أن ما جرى ينبغي أن يعتبر من مكر الله الخير: ففيه دلالتان ينبغي أن تكون أساس تأويل الحدث وعلاقته المستقبل.
وأبدأ ببيان ما أعنيه بمكر الله الخير في ما حدث: فالغرب الادنى (أوروبا) والغرب الاقصى (الولايات المتحدة) وذراعيهما في الإقليم أو الشرق الادنى (إيران وإسرائيل وعملائهما من حكام العرب) والشرق الاقصى (الصين والهند) كل هؤلاء لهم مصلحة في التركيز على دكتاتورية تركيا بدل ديموقراطيتها التي يشككون في مصداقيتها.
لذلك فنجاح المعارضين النسبي بعد ما يقرب من عقدين من حكم النظام الحالي فيه تكذيب بين لهذه المعركة الرمزية التي لها ضرر كبير على صورة النظام. وحصول ذلك بحد ذاته اعتبره من مكر الله الخير. ومعنى ذلك أني لا أتهم الإسلاميين الذين صوتوا للمعارضة. ولا تهمني الدوافع وراء ذلك. وفيه شيء ثان يغفل عنه الكثير: وهو المعارضين سيكتشفون أن بقاءهم السياسي سيصبح رهن رضا الشعب وليس مجرد غضبه المؤقت على الحكم الحالي. وفي ذلك غنم للأمة. وأعتقد أن من مكنهم من الانتصار هو هذا الغضب مع عاملين آخرين ليس لهما مستقبل لأن أصحابهما بخلاف ما يظن ينقسمون إلى قسمين:
1. الإسلاميون الذين يباعون ويشترون وهؤلاء أذيال دولتي الثورة المضادة أي الإمارات والسعودية.
2. بقايا المندسين التابعين لجماعة الخدمة والذين يعسر حصرهم وهم من جنس من وصفهم القرآن الكريم في الأنفال 60 {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}.
والبشرى في ذلك أنهما مجتمعين لم يتجاوزوا هذا القدر الضئيل في الرأي العالم التركي بحيث إن ما أرادوه إضرارا بتركيا قد يكون فيه ألم للنظام لكنه في الحقيقة هو لصالحه من ناحيتين: إصلاح ذاته فمن يحكم عقدين يفقد بعض إشعاعه ويشوبه شيء من الفساد وإصلاح صورته الديموقراطية ما أسلفت.
وإصلاح الذات المتوصل هو شرط التواصل. فالحياة لها نظام التجديد الذاتي وهو توالي الأجيال وينبغي للأحزاب أن تحقق ما يماثل ذلك بتجديد الأجيال دون نسيان عامل الخبرة والتجربة التي تؤطر هذا التجديد فضلا عن أمر هو في الحياة انتخاب طبيعي وفي السياسة انتخاب خلقي لمنع الفساد في العمليتين.
ومن مكر الله الخير أن هذه الانتخابات قد حصلت في لحظة لن تليها انتخابات لمدة تتجاوز المدة الفاصلة بينها وبين حدث تاريخي جلل يهابه جميع أحبابه مهابة وهيبة وجميع أعدائه خوفا وتوجسا بحيث إن كل ما يجري له علاقة بمحاولات وأده أعدائها أعني مئوية التحرر من قيود اسقاط الخلافة وبداية الحرب على هوية الشعب التركي الذي استرد ذاته وطموح الأمة التاريخي ومنزلتها الكونية.
لولا العلاقة بين حدث الانتخابات وهذا الحدث المنتظر العلاقة التي يحاول الإعلام المأجور التعمية عليها وإغفالها في الكلام على المحليات التركية ما بادرت للتعليق. فهدفي تذكير شباب الثورة وخاصة في بلاد العرب بأن المعلقين هدفهم احباطكم وليس شرح ما يجري. ما يجري شديد الدلالة على معنى مكر الله الخير. فشيء من التلاقي العجيب لما يبدو من الصدف لا يمكن ألا يكون وراءه سر من أسرار التاريخ الكوني الذي يقتضي الكلام على هذا المكر الإلهي الخير.
لا أحد يمكن أن يكون قد خطط لما يحدث بحيث تصبح هذه الانتخابات المحلية وكأنها بؤرة يلتقي فيها كل الماضي مرموزا إليه بإسقاط الخلافة وكل المستقبل مرموزا إليه بإسقاط أسقاطها وعودة الأمة إلى دورها طبعا في شكل جديد ليس بالضرورة شكل الخلافة بل لعله يكون شكل الولايات المتحدة الإسلامية في الإقليم المركزي للأمة مشرقها ومغربها.
لكن لا شيء يضمن تحقيق ذلك إلى إصلاح نوعي الانتخاب الخلقي في السياسة: الانتخاب الذي يكون الشعوب أي الوظيفة الأساسية للتربية. فصحيح أن التربية تكون الكفاءات العلمية والتقنية شرطا في كل إنتاج مادي وروحي ودعامة لسيادة الأمة في الرعاية والحماية الذاتيتين. لكن ذلك لا فائدة منه من دون تكوين الشخصية الخلقية التي تستعملها من أجل التسابق في الخيرات (العمل الصالح) لتجنب التنافس في الشرور (العمل الطالح).
وإذن فمن دون سلامة هذا الانتخاب في التحصيل العلمي وتطبيقاته وفي التربية الخلقية على الفضائل وتطبيقاتها لن يكون الشعب في مستوى التحديات التي من دونها لا يمكن للأمة أن تسترد دورها: فجل الخريجين في البلاد العربية مثلا ليس لنظام التكوين فيها أي من هذين الشرطين ومن ثم فالنخب لها شهادات تفيد عكسها تماما.
لكن هذا الانتخاب الأول ليس كافيا.
الانتخاب الثاني وسلامته مشروطة طبعا بسلامة الأول دون أن يكون ذلك كافيا. فانتخاب التعيين في العمل أيا كان ضمن تقسيمه في الجماعة هو الشرط المتمم.. فإذا لم يكن هذا الانتخاب الثاني للتعيين مثل الانتخاب الأول للتكوين سليما معرفيا وخلقيا وخضع للولاء مقدما على الكفاءة المعرفية والخلقية كان ذلك تهديما ذاتيا للجماعة وتخريبا للدولة.
وهذا هو أكبر أدواء العرب فضلا عن جمعهم بين فساد الانتخابين: التخرج بالوساطة والعمل بالولاء. وهو إذن تخريب مضاعف. وإذن فكلامي على اعتبار ما يجري فرصة للإصلاح بهذين المعنيين لأن الفساد لا ينتج إلا عن فساد هذين الانتخابين التكويني في التربية والتعيين في العمل: علة الخراب شبه المطلق في التعليم وفي إدارة الاقتصاد والثقافة ومن ثم في الدولة عند كل العرب.
وأختم بآخر ملاحظة:
من ينظر إلى خريطة النتائج يعلم أن ما يبدو هزيمة هو في الحقيقة أكبر انتصار. فحتى في المدينتين الكبريين لم ينجح المعارضون إلّا اسميا لأن المجالس التي ستتكون الاغلبية شبه الساحقة هي للحزبين المتحالفين في الحكم وليست للمعارضة ما يعني أن الأمر لصالح ما ننتظره.
ماذا ينتظره كل مسلم مؤمن بأن عودة الأمة أذنت وأن الاستئناف بات قاب قوسين أو أدنى هو ما تشخص له الأبصار من تاريخ الخروج مما ظنه العدو قرن الهزيمة والانهيار سيتبين أنه قرن النصر والانتشار. فالثورة المضادة فشلت وموجة الثورة الثانية بزغت شمسها في رمز حرب التحرير التي صارت رمز حرب التحرر أعني الجزائر وبذلك عدنا إلى لحظة الاستئناف من جناحي الأمة: حلف شرق الإسلام السني وغربه من جديد.