مقالات

صرخة "الكابا هاكا"

فتحي الشوك
لحدّ السّاعة لا زالت مجزرة نيوزيلندا تشغل الرّأي العام العالمي وتثير مزيدا من ردود الأفعال، مجزرة ذهب ضحيّتها قرابة الخمسين من الأبرياء على يدي مجرم قتلهم بدم بارد، بل ونقل جريمته على المباشر ليصدم العالم ويستثير فيه بعضا ممّا بقي من ضمير.
المجرم الّذي رفضت رئيسة الوزراء النيوزيلندية الرّائعة “جاسيدا أردرن” أن ينطق لسانها باسمه، تصرّف مع سبق إصرار وترصّد وهو يبدو كذئب منفرد ضالّ لكنّه قد يكون الشّجرة الّتي تخفي غابة وحوش مفترسة مشوّهة هجينة هي نتيجة فعلية لخطاب الحقد والكراهية وانتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا. فهل هذه الأخيرة هي منتوج خالص لكيمياء، عناصر تفاعلها غربيّة محضة، أم أنّها متداخلة ومفعّلة بعناصر خارجيّة دخيلة؟ وهل المستهدفون بسهام الإسلاموفوبيا هم المسلمون المختلفون المقيمون في بلاد “الكفّار” أم تشمل كذلك “المسلمين” في بلاد “الإسلام”؟
نيوزيلندا الهادئة الرّائعة:
استفاقت نيوزيلندا، تلك البقعة الهادئة الرّائعة الواقعة في أقاصي الأرض على بعد 1500 كلم جنوب شرقي أستراليا، يوم 15 مارس 2019 على وقع جريمة فظيعة أودت بحياة قرابة الخمسين من مواطنيها وأصابت مثلهم بينهم أطفال ونساء كانوا يرتادون مسجدين، لتصاب بالصّدمة وتكتشف أنّ بعدها لم يحصّنها من عوارض عالم موبوء يشهد أزمة قيميّة عميقة.
تبلغ مساحة نيوزيلندا، المتكوّنة من جزيرتين رئيسيتين و600 جزيرة صغيرة، قرابة 268021 كلم مربّع، يقطنها قرابة الخمس ملايين نسمة، ثلاثة أرباعهم من أصول أوربية بدؤوا في التوافد عليها منذ اكتشافها سنة 1642م، و15 في المائة منهم هم سكّان أصليون (ماوريون) أمّا البقيّة فمن أصول مختلفة. هو بلد متعدّد الأعراق والثّقافات والأديان، تتعايش شرائحه في أمن وسلام متصدّرا مراتب متقدّمة في مؤشّرات التنمية. لم نكن نعرف عن نيوزيلندا سوى ما تنتجه من أبقار وماشية وألبان وإبداع فريقها لكرة الرّقبي ورقصتهم الشّهيرة “الكابا هاكا”.
وقد يعتقد البعض أنّ “تطرّفها” الجغرافي من الممكن أن يحصّنها من تطرّف فكري بدأ يتشكّل وينتشر في أرجاء المعمورة، كما أنّ تقاليدها المكتسبة في التّعايش السّلمي المتحضّر قد يجعلها في مأمن من مناخات الكراهية والحقد الّتي انتشرت على الكوكب الأزرق بعد أن تحوّل إلى قرية صغيرة ذابت معها الحدود واختصرت المسافات وانتهكت الخصوصيّات.
لم يخف منفّذ الجريمة سيّئ الذّكر أسباب قيامه بتلك الفظاعة والّتي خطّط لها مسبقا منذ سنتين أو يزيد، هي حرب مقدّسة يخوضها ضدّ من يعتبرهم خطرا داهما يهدّد وطنه المسيحي الأبيض وهي امتداد لكلّ الحروب المقدّسة السّابقة، هي قناعات ترسّخت وعقيدة تشكّلت تنهل من محيط الإسلاموفوبيا.
الإسلاموفوبيا في بلاد الغرب:
من المجحف القول أنّ الإسلاموفوبيا هي ظاهرة جديدة مستحدثة في المجتمعات الغربية، فهي متجذّرة ومتأصّلة تكبح جماحها ويحدّ تجلّيها الواضح جملة من الظّروف الموضوعية، الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية، لتبرز كلّما سنحت الفرصة خصوصا حين التأزّم لتمارس صراحة ومباشرة أو بصفة مبطّنة في مجالات الإعلام والثّقافة والسّياسة.
ولعلّ أبرز دليل على ذلك تصاعد النّزعات الشّوفينية العنصرية وصعود الأحزاب اليمينية المتطرّفة في المجتمعات الغربية خلال العقود الأخيرة. يمكن إيجاد مبرّر موضوعي لنشأة الظّاهرة في تلك المجتمعات الّتي تتبجّح بثراء تنوّعها لكنّها تبدي حساسية مفرطة عند استشعار تهديد يهدّد نمطها المجتمعي، فبالعودة إلى مراحل التّـأسيس فهي برغم علمانيّتها الظّاهرة لم تتخلّ عن نظرية تفوّق العنصر الأبيض المسيحي لتتكوّن وتتضخّم مركزية ثقافية غربيّة متمحورة حول ذاتها تنظر من خلالها بدونيّة إلى المختلف الآخر والّذي لا يصلح إلاّ ليكون على هامشها وفي خدمتها.
فذاك السّاحر الأبيض هو من استعبد أكثر من 180 مليون إفريقي رمى بمعظهم طعاما لقروش البحر وهو من أباد 100 مليون من الهنود الحمر في أمريكا الشمالية وقرابة 50 مليون من سكان أمريكا الجنوبية الأصليين و20 مليون من سكان أستراليا الأوائل، وهو من أشعل حربين عالميتين طحنت ملايين البشر وهو من مسح من الخريطة مدينتي هيروشيما وناكازاكي بقنبلتين نوويّتين وهو من دمّر الفيتنام والعراق وأفغانستان وهو من احتلّ واغتصب وأفسد كل أرض يطئها باسم التحديث ونشر الخضارة، تاريخ دموي تمّ فيه سفك دماء ما لم يسفك خلال كلّ التّاريخ الإنساني.
تاريخ أسود طُمر تحت حضارة برّاقة أقيمت على جماجم المستضعفين ورسمت معالمها بدمائهم ورويت أشجارها بدموعهم وعرقهم لينعموا بما هم فيه الآن من رقيّ ورخاء دون بادرة لاعتذار أو اعتراف بالجميل لمن ساهم في ذلك. ولعلّ ما يغذّي تلك الإسلاموفوبيا بعض العوامل الدّيمغرافية وتصاعد الهجرة في اتّجاه “جنّتهم” هربا من جحيم هم صانعوه بسياسات التفقير والاستغلال الفاحش، ومساندتهم للمستبدّين المفسدين وبإشعالهم للحروب والصّراعات، يضاف إليها تزايد أعداد الدّاخلين في الدّين “الدّخيل” الّذي برغم كلّ محاولات التّشويه وربطه بإرهاب مصطنع، صار ملجأ لعديد التّائهين في ظلّ أزمتهم القيّمية العميقة والمستفحلة.
الإسلإموفوبيا في بلاد “المسلمين”:
إذا كانت الإسلاموفوبيا في الغرب تسير باحتشام ووفق ضوابط قد تخرقها بعض الانفلاتات هنا وهناك، فإنّها في المقابل في بعض أوطاننا العربيّة والمسلمة تتبرّج وتميس بشكل فاضح وتمارس بلا خجل من طرف نخبة منبثّة مستغربة مزروعة ومنتشرة كتفريخات لورم سرطاني، وتتبنّى رسميّا من حكّام مستبدّين جعلوها مبرّرا لوجودهم واستمرارهم.
فالمطالبة بالحرّية والحقوق الأساسية لحياة كريمة والمشاركة في الشّأن العام واختيار ومراقبة من يحكم، هي تهم كافية لوصف من يدعو إليها بالإرهاب ولأنّ هذا المصطلح المتمطّط الفضفاض استدعي ليقترن بالإسلام فبالضّرورة أن يكون المستهدفون والمطاردون والمحلّلة دماؤهم وأعراضهم وأموالهم هم إسلاميون أو لهم علاقة بالإسلام: الإسلام الحيّ الحركي القابل للحياة والقادر على التّغيير.
والمثير للقرف ليس ما نشاهده خروجا عن النصّ في الغرب بل ما نلاحظه نهجا متّبعا في بلاد “المسلمين”، فرئيس دولة منقلب مجرم كالسّيسي من تلطّخت يداه بدماء آلاف المصريين، لا يجد حرجا بمناسبة وبغير مناسبة في التحذير من خطر الإسلام على البشرية مقدّما نفسه للغرب المتحضّر كحائط صدّ في وجه هذا الوحش القاتل، ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد نبّه كم مرّة إلى ضرورة كبح انتشار الجوامع في أوروبا، أمّا رافعة راية التوحيد فلم تقصّر في دعم هؤلاء، بل وفي مطاردة كلّ نفس إصلاحي وفي رسم صورة أبشع ما تكون عن دين هو في حقيقته مشروع حضارة وبناء الإنسان.
لم يكف الاستبداد الخارجي وعملاءه في الدّاخل ما حاولوا إثبات فساد الإسلام الحقيقي نظريّا بل دعّموا ذلك تطبيقيا باختلاق نماذج مشوّهة هي صنيعة مخابراتهم ومختبراهم، وداعش الّتي أكملت مهمّتها على أحسن وجه لا تبدو أنّها ستكون آخر العنقود بل أكيد سيستنسخ منها المزيد وربّما أكثر توحّشا بحثا عن صدمة أشدّ قد تصدّ قوافل الوافدين الجدد إلى دين فيه كثير من الحلول لأزمة قيمية عالميّة تزداد تأزّما.
كان قصد الإرهابي المجرم صدّ ما يعتبره خطرا دخيلا داهما، فإذا بالخمسين شهيدا يثمرون سبعة أضعافهم في سبعة أيّام، وإذا بهبّة إنسانية حضاريّة يشهدها المجتمع النيوزيلندي وبعض المجتمعات الغربيّة لم نر لها مثيلا، وإذا بقرآن يتلى في البرلمان وآذان يرفع وعيد للحجاب يستحدث وإذا برئيسة وزراء تكفكف دموع المكلومين وتقف إلى جانب الضّحايا كأخت أو أمّ حنون وتعانق إمام المسلمين. فما رأي حضرة شيخنا السّديسي الّذي أخرج لنا بيانا باهتا كتبه منذ سنين وما رأي مفتيي السّلاطين المتعالمين في عناق الرّائعة جاسيد لإمام المسلمين، هل يجوز ذلك؟ هل وجب عليه الوضوء أو الغسل أم صار من المغضوب عليهم والضّالين؟
كانت صرخة الكاباهاكا المفعمة بالتحدّي مدوّية ومزلزلة، هي صرخة إنسان من أقاصي الأرض تدعو البقيّة إلى استعادة بعضا من إنسانيتهم ليكفّوا عن النّفخ في نار الحقد والكراهية، نار سيحترق بها عاجلا أو آجلا من يذكيها ولن تستثني أحدا.
مدونات الجزيرة

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock