منجي الفرحاني
وضعت السمّاعتين في أذنيّ و بحثت في هاتفي “الغبيّ” عن محطّة راديو علّني أعرف آخر المستجدّات من أخبار هذا الزمان الرّديء ابن الفعلة أو علّه يعترضني لحن حبّ أشتاق الضّياع في متاهاته قد يعيد الكحل إلى صاحبة العيون العربيّة العسليّة في دمي..
لا أرى هذه الأيّام كحلا في عيونها التي تنثر وجل السّنين على المارّة على الرّصيف وفي أفق المدينة المخنوقة سحائبه بحبّات الرّمل الجنوبيّة الغاضبة ولا أرى عطرا في أنفاسها على رقبتي المقطوعة الخواطر ولا حتّى طعما في قهوتي التي سأرشف فيها أشلاء أوهامي المتناثرة على مدارج كلّ المطارات التي صَحِبت غربتي أيّام السّفر المكتوب.. سفر تطارده اليوم أشباح سود كأفكار عاهرة في رأس شيطان رجيم..
بعد الخشخشة دخل راديو الكاف على الخطّ في موجز لأخبار الطّقس:
“الطّقس مغيّم على جبالنا والنّسمة الكافيّة حزينة… شويّة ارهاب على شويّة تهميش على شويّة حڨرة على شويّة بُكّْ مخلّط بالحريّة…
الرّيح “شريشي” دخلاني منسي والرّؤيا مدّ ايدك ما تشوفهاش..
البحر الّي وعدونا بيه وعمرنا ما ريناه مضطرب وهايج وداخل وخارج في الحلّة…
ويا لندرا يا غيم تتجلاّشي؟”
هذه الأنغام التي سال لعاب سوادها على قلبي أفسدت عليّ طعم قهوتي والنّادل بعد لم يصل..
أبعدت أحد أذنيّ عن السمّاعة لأعود ولو بنصف اللاّمبالاة إلى ما يدور حولي..
المهندس المعماريّ الذي يعرف أنّني أعرف أنّ أسس بناياته مغشوش على الطّاولة المجاورة ينظّر في الإرهاب ويقول إنّ بنيتنا التحتيّة الأخلاقيّة والفكريّة والدّينيّة مغشوشة ممّا جعل شبابنا لقمة سائغة للدّواعش ويدعو إلى محاسبة الغشّاشين…
الإعلاميّ صاحب الصولات والجولات والڨعدات على يساري يتحدّث على مدى انبهاره بمكتشف الرّابط العضويّ والتقنيّ والاستخبراتيّ بين سلسلة “دجيمس بوند” وتقنيات الحرب لدى الدّواعش تمّ يثني على العاهرة مديرة الخطوط الجويّة التّونسيّة “فطساء” الملامح والدّماغ التي تبوّلت على دستور البلاد بمنعها سيّدة محجّبة من أداء عملها باسم ما يسمّى بالحداثة النّمطيّة البائسة..
“مارسيّازه” لا تزال كعهدي بها تحمل قذارة أيّامه الخالية.. لا التسونامي ولا أعاصير الحرب والسّلم ولا مياه مجردة ولا “ڨرّة المعزة” الأخيرة نجحت في تطهير زمانها الوسخيّ…
العاهرة وحبيبها الأحول يحلمان بصوت عال فيما يشبه الرومانسية بمكان في هذا العالم آمن من الدواعش يلجئون إليه حتّي يكونا في مأمن من موتة الإرهاب وحتّى لا يفتضح أمر ابن الحرام في بطنها وفي حَوَلِه.. طريقة أخرى من طرق التّجارة في سوق الإرهاب العالميّ الرّجيم…
صاحب المقهى جلب انتباهي إلى غياب أكياس الزّبالة من على وجه الرّصيف.. سألته إن كان مرّ اليوم مسؤول يجرّ جوقة من المطبّلين يحملون عقولهم الخاوية على أكفّهم المتخشّبة من آثار التّصفيق الأبديّ الرّخيص.. قال: غدا يمرّ…
أمّا صديقي البهلول فقد استوقفه سائحان يسألان عن ساحة الاستقلال، ردّ غاضبا: أيّ استقلال؟
ثمّ واصل طريقه يجرّ علبه الفارغة ويلعن مزيّفي التّاريخ والجغرافيا والأحلام..
الشّيخ محدّب الظّهر والحظّ لن يطعم اليوم فلذات أكباده والرّصيف نظيف..
لعن المنافقين ونام تحت عربته يحلم بغد أقذر..
فجأة تغيّرت النّغمة في أذني.. لا يزال الرّاديو “كافيّ”:
“بالنّسبة للـ 24 ساعة القادمة إن شاء الله باش تنقشع الغيوم تدريجيّا وباش تشرق الشّمس على جبال الكاف العالية وباش نرجعو نحلمو بربيع النّسمة الكافيّة.”
لم تدم فرحتي كثيرا..
اكتشفت أنّها مجرّد ومضة اشهاريّة عن تظاهرة 24 ساعة مسرح…
أين النّادل؟
أريد قهوتي بلا أقنعة..
“في مقهى العبث”
22 مارس 2017