نحو تحيين معايير جديدة لاستقلال الشعوب والدول !

بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي
منذ أكثر من نصف قرن، تحتفل البلاد العربية بأعياد استقلالها، وتخصص لذلك يوما في السنة أو أياما، ويتم تعطيل العمل والتعليم خلال تلك الأعياد، وتنظم مواكب الذكريات، وتوضع أكاليل الأزهار على قبور الشهداء، وغير ذلك من الأشكال التعبيرية.
ومع تباعد الزمن، وتغير الأجيال والأوضاع، تصير هذه المناسبات المتكررة كأنها رتيبة الإيقاع، مملّة التكرار، عديمة المعنى، خاصة إذا كان كل شيء في الواقع المحيط يكذّب الشعارات المرفوعة وينقاضها.
ولقد مثّل الاستقلال لجيل آبائنا أمرا عظيما، بعد أن كاد الإحباط يقتل أي أمل في خروج المستعمرين من البلدان المستعمرة. ثم خرج المستعمرون تباعا، وما بقي اليوم في العالم من استعمار بغيض غير مظلمة كبرى واحدة هي مظلمة فلسطين، أو مظالم محلية في بعض المناطق الصغيرة المحتلة بحكم أوضاع وأسباب تاريخية معلومة.
وكان حضور أو غياب جحافل المستعمرين في شكل جيوش وجموع محتلة أتت مستولية على الأرض وناهبة للثروات معيارا كبيرا يقاس به الاستقلال من عدمه. إلا أنه بعد تجربة زادت عن سبعين سنة من الاستقلال عن القوى المستعمرة، آن الأوان لمراجعة هذا المعيار، وإدخال حسابات جديدة لقياس مدى استقلال البلدان من عدمه.
ولقد دلّت التجارب المريرة أن مجموعة من المعايير والمواصفات ينبغي أن تتوفر لكي تدلّل على وجود الاستقلال الحقيقي. وأختار من بين تلك المؤشرات النقاط العشر التالية :
المؤشر الأول : الحكم العادل : لأن دعم المستعمر السابق للاستبداد المحلي الممارس من طرف حاكم أو حزب أو طائفة معينة هو استعمار غير مباشر : فالبلدان تسعبد وتستعمر عن طريق إخضاعها بدعم طغم عسكرية أو أيديولوجية موالية، وتأبيد الاستبداد، هي بلدان في حكم البلدان المستعمرة حتى وإن ادعت الحرية ورفعت الرايات واحتفلت الاحتفالات. ولا يمكن اليوم الحديث عن استقلال في ظل مثل هذه الأوضاع التي نراها عيانا في أغلب البلاد العربية.
المؤشر الثاني : الحوكمة الرشيدة : لأن وجود حكم محلي منتخب وفاسد وغارق في إثم النهب وبيع الثروات والولاء الخفي أو الجلي للأقليات المتساندة المتحكمة هي ظاهرة مناقضة لفكرة الاستقلال من أساسها، لأن الثروة المحلية، إن لم يتم استغلالها لفائدة الناس الذين يسكنون في الحيز الجغرافي الخاص بتلك الثروات، فهو لا يعدو أن يكون الاستعمار غير المباشر بذيله، وهو ناف للاستقلال الحقيقي المزعوم.
المؤشر الثالث : التعليم الوطني : وجود منظومة تعليمية وطنية، بلغة وطنية محلية تعكس ثقافة الناس ودعامتهم الحضارية المشتركة، وتحدد الأولويات وفق مفكرة وطنية وعقد اجتماعي محلي هو ضمانة صمّاء لوجود استقلال حقيقي. فلا استقلال مع الجهل. وغياب هذا التعليم الوطني باللغة الوطنية أكبر دليل على زيف الاستقلال المزعوم.
المؤشر الرابع : الإعلام الحرّ المسؤول : إذا كان الهدف الأول الذي يعمل عليه الإعلام هو تزييف الوعي العام، وعبادة الشخصية الاستبدادية، وبرمجة العقول وفق مصالح أنانية تعود بالنفع على الأقليات المتحكمة والقوى الشاذة عن طبيعة المجتمعات، فهذا الإعلام لا يكون في نهاية التحليل إلا خادما غير مباشر للمصالح الاستعمارية الجديدة، خصوصا في ظل صراعات السيطرة والتحكم بين القوى العالمية اليوم.
المؤشر الخامس : الثروات البشرية : أعظم الثروات على وجه الأرض هي الثروات البشرية في شكل قوى شبابية صاعدة، تحمل أعباء التغيير والتطوير. فإذا كانت هذه القوى الشبابية مهمشة، متروكة، محاصرة، فإن الاستقلال الذي يوجد في تلك البلاد هو استقلال مغشوش مزيف، وأن الحقيقة الدامغة هي أن الشعوب التي تكون في المقدمة لا تكون إلا تلك التي يكون شبابها في المقدمة، للتغيير والتطوير والتحسين.
المؤشر السادس : المؤسّسات القوية : الاستقلال ليس مسألة هينة في ظل أوضاع عالمية مشكلة دوما بحسب نتائج آخر الحروب الكبرى. ومن أجل مواجهة استحقاقات المراحل التاريخية الكبرى، فوجود مؤسسات قوية في الدولة والمجتمع هي ضمانة كبيرة للاستمرارية والتحضر، وهي التي تعبر عن الاستقلال في الإرادة السياسية.
المؤشر السابع : البنى التحتية الهيكلية : بعد خروج جحافل المستعمرين، لا مجال أن تبقى البلدان ضعيفة في بنيتها التحتية الهيكلية، وعليها تحقيق الحد الأدنى الشائع عالميا من خدمات الصحة والاستشفاء والتنقل والتعليم والحماية الاجتماعية، لكي تتجنب الهزات الكبرى الناتجة عن التحولات الاجتماعية الطبيعية أو عن التغييرات التاريخية التي تطرأ على العلاقات الدولية.
المؤشر الثامن : إدارة التنوع والاختلاف : البلدان التي حققت الاستقلال السياسي ثم انقلب ذلك إلى احتراب داخلي مدمّر مما يؤشر على فساد ذلك الاستقلال المزعوم. وكبار القوم في كل مجتمع ودولة تعرف قيمتهم من خلال قدرتهم على فرض قوانين لإدارة التنوع والاختلاف، فلا مجال لوجود السجون والتعذيب والتقتيل تحت عناوين الخيانة والاختلاف السياسي أو المذهبي، وإنما انتشار هذه الظواهر المناقضة لحق الإنسان وكرامته – كما نراه في عديد البلدان العربية التي تمتلئ سجونها بأخلص الخلّص من أبنائها وشبابها – دليل على غياب الاستقلال من أصله، فلا يمكن لمجتمع أن يستقل وهو يتآكل ويدمّر بعضه البعض، أو يعيش في حرية ويستخدم تلك الحرية في تدمير ذاتي، يتضارب شكلا ومضمونا مع فكرة الاستقلال.
المؤشر التاسع : ثقافة استقلال المعاش : الاستقلال ثقافة أو لا يكون. والبلدان التي تكون مرتهنة في مأكلها وملبسها ومشربها ومسكنها وتفكيرها ولغتها إلى جهات عالمية متسلطة أو امبراطوريات مهيمنة ليست بلدانا مستقلة. والمؤشر المتعلق بالمعاش ينبغي أن يحقق الحد الأدنى الإنساني للمعاش بوسائل ذاتية أو طرق لا تعرّض استقلال البلاد إلى الخطر.
المؤشر العاشر : استقلال الإرادة السياسية : إن جميع المعايير التي ذكرتها أعلاه إنما تهدف إلى لبّ الاستقلال في فكرته الفلسفية وهو : استقلال الإرادة السياسية. والإرادة السياسية تشكيلة معقّدة جدا من عدة عناصر متآلفة أو متخالفة، يمكن ترجمتها في وطنيّة القرار الداخلي والخارجي، وانتفاء عامل التأثير الزبوني في العلاقات السياسية بين الدول والمؤسسات المحلية والعالمية. وبفقدان هذا المؤشر، يصبح الحديث عن الاستقلال مجرد سفسطة لا قيمة لها.
إن الاستقلال فكرة جوهرية في الحضارات. ولم ينقل التاريخ ما يدلّل على أنّ فاقد الاستقلال صنع حضارة وأضاف شيئا إلى مكاسب الإنسانية. وأغلب الذين هضموا الحداثة في هذا الزمان هم أناس أو شعوب من مستقلي الإرادة ومن أحرار التفكير. فالعبد التابع والزبون المرتهن لا يصنعان حرّية. هكذا هي الحياة.
✍🏽 #بشير_العبيدي | رجب 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

Exit mobile version