نور الدين العلوي
قلبي ينطرح تحت فستانك ويستجدي رضاك ويخشع فتنظرين في جنس الملائكة والفراش وتطرحيني. يا أمتي كيف السبيل إليك وكيف سبيلك للمجد وقد ضيعتِ العواصم؟
يرفرف قلبي إليها واحدة تلو أخرى ويقول زُرْ في العيد أطفال العواصم. أين يحط القلب يا مدني السليبة؟ من شنقيط لا يردني إلا العراق وتفخرني الجغرافيا لكن اللحظة تخذلني. كيف أعيّد التاريخ والمدن العظيمة ولا أعطي لأطفالها لعبا وحلوى؟
يحط قلبي على شرفة في الرصافة ويقول الجسر جسري ولي ببابل عيون مراض وقبل انفلاق الصبح ينقعر الجدار بي فأطير مع شظية ويد طفل ولعبته يا لعبة الطفل تمسكي بالأصابع سندفنك ضحى لعل الجنة مفتوحة في الضحى ولعل الطفل يجتمع بلعبته هناك. لقد فقد العراق ألعاب الطفولة وكان له في الحزن تقاليد عريقة فاستعاد دموعه. ليس في العراق الآن إلا بركة من دموع. وبغداد انطوت كنطع قديم لوثته الدماء. بغداد الآن هي بكى من رأى. فالمآذن خاشعة والنهر أسود وبه بقع قانية. بغداد كانت منذ إبراهيم أمة وحدها إلا إنها الآن جاثية. يا أمة بلا بغدادها كيف أنت ؟
تتجمع شظايا القلب في سماء دمشق وتبحث عن شرفة سالمة وتحط على ما تبقى ليس في دمشق إلا الجنود البيض كالبطيخ والأحذية الصاخبة لا شرفة في دمشق إلا بها من الشهباء دموع فإذا انطرح القلب على الطرقات يجمع الياسمين الشامي داسته أقدام الجنود والفرس وخبراء القتال. يوزعون الموت بالقبان الدمشقي. يا أمة بلا شامها كيف أنت ؟
يطير القلب بعيدا والجرح يزداد اتساعا إلى قاهرة حكمت بحار الأرض ذات خلافة. العسكر المجر فيها له هبوات بيض ومعمل بسكويت. العسكر فيها رب صغير يقول اعبدوني فربكم لا يعرف مصر مثلي وهذه البلاد وجهها والنعال. كذا سَوْسُها وكذا تحكم وكذا تشرب بولها وتصلي وكذا القاهرة. اسمها على جسمها لا بد أن تقهر أهلها أولا لتكون. وكيف تكون مدينة يسير أهلها جنب الجدار؟ يحاذون أن يسعلوا لكي لا يزعجوا العسكر فالسعال قد يكون احتجاجا. هنا القاهرة. هنا نطمس صوت العرب من القاهرة. هنا نجفف النيل ونشتري بلحم الصعيد أرز المهانة هنا يعسكر العسكر ويسقي مصر من بولها ويمن عليها البقاء… يا أمة بلا مصرها كيف أنت ؟
أين يطير القلب يا أمة فقدت عواصمها تباعا كأنما سبحة الدهر في يدها فقدت سداها؟
هل في اليمن السعيد سعيد ؟ أبدا لقد أنهدم اليمن السعيد على خواه. الدم في الطرقات والدم في الشرفات والدم في المساجد. اليمن الآن خراب لقد حضر الموت في حضرموت. فعدن الآن لم تعد تعطي الجنة اسمها والماء فيها لم يعد معدنيا. والبن فيها ماتت مرابعه والقات لم يعد يسكر. كانت في اليمن عاصمة حلوة المبسم سماها أهلها من كبرهم صنعاء لبهجتها. أين صنعاء الآن يا أمة الحكمة في اليمن التعيس ؟
لو كانت تمبكتو تسمعني لقالت في الغرب كانت مدينة طيبة عمَّرتني كان تجار طرابلس يبيتون هنا في المساجد ويقولون السود بعض إخوتنا ونصلي خلف أمامهم في التهجد ونستحب عجمته الخاشعة. ثم نبيع لهم بعض ما نصنع من ملابس ونكتب معهم على جلود الغزال مصاحف.
صارت طرابلس ذكرى وتمبكتو لم تعد تتكلم بلسان طرابلس وبني غازي مزقتها القبائل. قلبي لم يجد في طرابلس شرفة ليحط فهل يجد في الجزائر؟ يا أمتي أين الجزائر وقد صار يشكمها مقعد عاجز. هل في الجزائر لقلبي شرفة ليحط ؟ في زمان مضى كانت تقول غرناطة ضاحية للجزائر والآن تقحَّمها العسكر يسكرون على قرعة أهلها بالنبيذ الفرنسي.
لا تحط في الجزائر لقد فقدت قلبها ذات يوم وكل قلب عابر قد يزعج نومها المتقطع بكوابيس ما بعد النبيذ والعسكر.
طر بعيدا ولا تحط أيها القلب في عيد العواصم السادرة.
لا تعد إلى تونس إنها ساهرة تحسب ما تعطي غدا للصوص كي لا تفلس دفعة واحدة. دربها الدهر على عد صوابعها كل ليلة وتفرح إذا تجد في الصباح يدها كاملة. إن شرفة تونس مكتراة لسائح أجنبي يطل على أهلها متمطِّيا ويبول فحط على جبل قربها وتصبر أو لعلك تحتاج إلى سفرة أوسع إلى بلاد السناجب. ففي كل العواصم قد تجد ملجأ إلا مدينتك الباهرة. أو لعلها كانت كذلك ذات يوم ثم انطفأت قناديل أهلها لقلة الزيت فيها وباءت مآذنها بالحداثة الفاسدة.
لا تعد للحجاز فلم يكن إلا بلقعا موحشا. لا تقل هنا كان الخليفة ينثر الحب على رؤوس الجبال لكي لا يأثم من جوع طائر عابر في سماء الحجاز. هنا كان معمل للسيوف الصقيلة وهنا كان غلام يبرى سهاما هنا انظر ترى أمة كانت ثم بادت. هنا يقول لك التاريخ طِرْ. من فقد اللحظة لا مكان له في الزمان.
هل تذكر بيروت يا قلبي الجانح ؟ لا تذهب إليها فقد فقدت بريق العواصم. ولم تعد تطبع كتبا. خبزها الآن في الدبلجة والأغاني الرخيصة وتشغل وقتها بحديث الطوائف.
لا تذهب إلى القدس… هناك تحتاج ترخيص الأمم… البعيدة القدس كانت لقد.. لقد ضيعتها… أو ضيعوها.. لا تبحث عن الفاعل مادمت مفعولا بك.. في القدس الكل ذو حق اللَّاك…
أين يا أمتي أذهب؟
كلما أمنت إلى شرفة أطردتني يا أمة ذات ضحى علمتني في مدارسها الفقيرة إن الأمة واحدة وإن كانت عواصمها عديد؟ كيف لأمة فقدت عواصمها بقاء؟ يا أمة بلا عواصم أما من شرفة لقلب صغير يجنح ؟
كيف يا أمة لا تصنع ألعاب أطفالها أن تربي رجالا شدادا يحكمون الخرائط والبحر والقرصنة؟
يا أمة تنطرح في طريق الدهر فينطرح عليها الدهر ويفسق. قلبي ينطرح على قدميك يا أمة مرمية في الطريق دوسي عليه ومري إلى مجدك وهل مجد بلا بغداد مجد؟ وهل مجد بلا دمشق مجد؟ وهل مجد بلا النيل مجد؟ وهل بلاد لا أوراس لها بلاد؟ مري إلى موتك قبل أجل موت الأمم لعل في رِمَّتك راحة للرميم الذي فوقك يعيش ولا يخجل أن ليس له عاصمة.
احتفظُ بلعبي وأدفنها جديدة فما أنا إلا من غزيَّة التي اشترت ألعاب أطفالها من بلاد بعيدة. وأطفال العواصم بعد جولة قلبي الكسير ماتوا صغارا ذات انفجار تحت شرفة في الرصافة حين طار قلبي ويد الطفل والعيد في السماء مزقا وشظايا. بعد بغداد لم يعد لأطفال أمتي عاصمة ومن فقد عاصمته لا يستحق البقاء.