تدوينات تونسية

متلازمة الزّمن الجميل

بشير العبيدي
#رقصةُ_اليراع
الإحباط يهدد الكثير من شباب العرب اليوم، ومن الأسباب المؤدية إليه، انتشار التصوّر المثالي الخاطيء للتاريخ في الوعي الفردي والجماعي، مما يسبب الشعور الغائر باستحالة تجديد ذلك “المثال الخارق للعادة” الذي اسمه “التاريخ المجيد”، فيحبط الإنسان لأنه حيال “زمن جميل” لا يمكن أن يتم تجديده نظرا لمثاليته الفائقة.
والصورة المتخيلة المثالية، يؤدي تكرارها إلى الشعور بالإحباط، بسبب الإحساس بعدم القدرة على إعادة إنتاج ذلك الماضي “المجيد”.
ولو قارنا ناس اليوم كما نعرف بعضنا البعض في سياقاتنا، وناس القرون الخالية كما قرأنا عنهم في الكتب في سياقاتهم الخاصة بكلّ جيل، لانتبهت إلى وجود اختلافات جوهرية كبيرة جدًّا، سواء على مستوى فهم الأشياء وإدراكها، أو على مستوى نمط التفكير وآفاقه.
والأجيال المختلفة لو اجتمعت يوما ما في صعيد واحد، لتناكر أغلبها شديد التناكر، ولتنافرت قلوب أكثرها أشد التنافر. وإنّما مأتى ذلك من اختلاف عقول وأخلاق وآفاق كلّ جيل من البشر درجة من الاختلاف لا يمكن تصوّرها، سواء في كبائر الأمور أو في صغائرها…
لكنّ مشكلة الذّاكرة أنها تُجمّلُ الماضي… لحكمة أرادها الله في البشر، لها على الأرجح صلة ببقاء النّوع.
وهذا لا يعني أبدا أنه لا يوجد في ماضينا البشري الشيء الجميل الرائع البديع. كلاّ. يوجد الجميل والأجمل منه مما لم يصلنا خبره، كما أومن أن في ما مضى توجد صفحات من أنصع ما عاشته الأجيال الفائتة من أيام وأن في عهدنا توجد من أبشع الأيام النّحسات … ولكن المقصود هنا هو التحري من التعميم والظن بأن نمط العيش في المجتمعات السالفة كان أفضل في كل وقت مطلقا، مع ما في ذلك من تضخيم الإيجابيات وتحجبم السلبيات، وخطر إغفال السلبيات إلى درجة أن يتحوّل الماضي إلى وهم نريد إعادة إنتاجه بأي ثمن، فيمنعنا من الانطلاق.
ولستُ متأكدا تماما بأن الشعوب ستتقبل أجيالها الأولى بسهولة لو عرفت حقيقتها كما هي … ولستُ متأكدا تماما أن الأجيال الأولى ستتقبّل الأجيال المتأخرة بسهولة لو عرفت حقيقتها كما هي.
إن النّاس التي تتحدّث اليوم عن التاريخ الماضي والأمم والأجيال الفائتة وكأنها تروي لنا قصّة ماجدولين أو ملاحم الشعراء والفرسان والصعاليك، تخطيء كثيرا جداً في فهم ما جرى في التاريخ حقيقة، كما تغفل عمليّة التجميل التي يخلّفها الزّمان على الذاكرة الجماعية، فتطلق الناس كلمة “الزمن الجميل” على ذلك الماضي، وهو لو تمت مقارنته بالحالة التي عليها الناس اليوم مقارنة موضوعية بعيدا عن المدح والقدح لتبين أن الفروق ستجعلنا ندوخ أمام هول ما كان والفرق بينه وبين ما في حياتنا اليوم.
لكن الحنين إلى الماضي والخوف من زعزعة قناعاتنا مما لا يدعنا نقدم على ذلك بسهولة.
ولو نظر في هذا الباب عقلاء الناس، لذهب كثير مما بهم من فساد الظنّ، ولزاد نشاطهم وقلّ إحباطهم، ولمالوا إلى فطرة الاعتدال واتخذوا سبيلهم سربا إلى فضيلة القصد.
إن أجمل شيء في الزمن هو أن تفهم ماضيه وتعيش حاضره وتعدّ العدة لغده …
#بشير_العبيدي | رجب| 1440| كَلِمَةٌ
تَدْفَعُ ألَمًا وَكَلِمَةٌ تَصْنَعُ أَمَلًا

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock