الجمعة 20 يونيو 2025
عبد اللطيف علوي
عبد اللطيف علوي

الذين ينتحرون حرقا

عبد اللطيف علوي
لا شيء يثير استغرابي أكثر من أولئك الذين ينتحرون حرقا.
لا أناقش هنا مشروعية الانتحار أو ضرورته أو حتى غرابته، فالجميع ينتحرون بشكل أو بآخر، هناك من ينتحر شنقا أو يلقي بنفسه أمام ميترو السادسة مساء للخطّ الشمالي، أو ينتحر ركضا كلّ يوم خلف الحافلات أو خلف فتاة ترخي له حبلا من حبالها لمدة 5 أو عشر سنوات ثمّ يفاجأ بها بعد ذلك متصدّرة في الصّالة إلى جانب خنزير يملك خنزيرة، وهناك من ينتحر بالتدخين، أو بالملل أو بالبروموسبور طيلة حياته ولا يربح سوى قصور الوهم، وهناك من ينتحر بالاستماع إلى لطفي العماري أو مشاهدة بوغلاّب وهو يحرق الدّخان لساعات وساعات محاولا أن يجد فارقا واحدا بين مؤخرته وقفاه، فيفشل فشلا ذريعا، وهناك طرق أخرى للانتحار لا تحصى ولا تعدّ، وكلّها جميلة ومعقولة ومسلّية أيضا… لكن ما معنى أن تنتحر حرقا؟
الّذين ينتحرون حرقا هم متحيلون أغبياء، ﻷنهم لا يقصدون الانتحار أبدا، ولو كانوا يريدون انتحارا قاطعا لا رجعة فيه لاختاروا أن ينتحروا شنقا مثلا! انتحار سهل وسريع، ينكسر عظم الرّقبة بحركة سريعة وينتهي كلّ شيء. كان بإمكانهم أيضا أن يرموا أنفسهم من شرفة في الطابق الخامس مثلا، أو يبتلعوا دفعة واحدة نصف لتر من الفتّاك العالي التّركيز، فلماذا يضيّعون وقتهم في الانتحار حرقا؟
إنهم يبتزون عواطف من حولهم فقط ولا ينوون الانتحار أبدا. هم يظنون دائما أن هؤلاء الّذين حولهم سيلحقون بهم ويسعفونهم في الوقت المناسب، لكن حساباتهم دائما تسقط في الماء بمجرد أن يصبحوا كرات من اللهب المتراقص، وعندها يشرعون في الرقص اليائس والصراخ والتوسل والعويل… ولكن لا أحد يتدخل ليسعفهم في الوقت المناسب، ﻷن الجميع سيخاف على سترته الجديدة ويفزع راكضا قبل أن تشبّ فيها النار، وحتى إن حدث وأسعفهم أحدهم فسوف يعيشون بحروق بليغة أو تشوهات تجعلهم ينتحرون كلّ يوم بشكل بطيء وطويل وغير مسلّ أبدا…
الدليل على أنّ هؤلاء الذين ينتحرون حرقا، لا أحد منهم يريد الانتحار حقّا، هو أنهم دائما يفعلون ذلك أمام الناس، في ساحة عامّة أو في إدارة تعليب القلق أو عند مرور وزير بلا نظارات… حتى الذين ينتحرون في بيوتهم، دائما يختارون توقيت وجود فرد أو أفراد من العائلة في البيت، ويجب أن يكون مستعدّا للتدخل، فلا ينتحر أبدا وهو بمفرده أو عندما يكون شريكه نائما أو يقضي حكما استعجاليّا في بيت الرّاحة… ينتظره حتي يخرج ثمّ يصبّ القاز على جسده ويضرم النار…
هو فقط يريد أن يثبت لنفسه أن هذا العالم مازال يحتاجه، وأنّه لن يتخلى عنه ولن يتركه يذهب بسبب مزحة ثقيلة أو نزوة دلع غير محسوبة، وسينقضّ عليه مباشرة أقرب شخص ويطفئ النار قبل أن تلفح وجهه أو تتسلل تحت ثيابه… لكنه يكتشف دائما، وبشيء من التأخير، الذي يكلفه الحياة عادة، أنّ هذا العالم لا يريده، لا يريده على الإطلاق وربّما هو أصلا ضائق بوجوده ضيقا خانقا وليس متلهّفا للحفاظ على رقم آخر قد يزاحمه ذات يوم في الحافلة أو في منحة الطّحين الفاخر أو في الركض خلف إحدى فتيات الدار الكبيرة التي سوف تسبقه حتما إلى رحمة الله بلا أدنى شكّ مادامت لم تنتحر حرقا.
#عبداللطيفعلوي


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

عبد اللطيف علوي

ونحن على ذلك من الشّاهدين

عبد اللطيف علوي  هو عنوان كتابي الثّامن، الّذي صدر اليوم بعون اللّه عن دار العلوي …

عبد اللطيف علوي

متلازمة الغباء الدلاّعي

عبد اللطيف علوي  ها قد بدأ موسم الدلاع، وبدأ موسم الخسارات والخيبات الكبرى. مع كلّ …

اترك تعليق