نابليون العربي، أو درس الإلتفاف..
علي المسعودي
لم يقُمْ نابليون بونابارت بانقلاب على الملأ، لم يصدر بيانا أوّلا، ولا حرّك ألْوِيةً ليحاصر الاليزي أو قصر لوكسمبرورغ وبوربون.. هو فقط جعل السياسيين يتوسّلون إليه ليقود السفينة ويُتَوِّجوه دستوريّا قنصلا عاما، ثم امبراطورا بعد جمهورية الدم، جمهورية القبعات الحمراء !..
كان هذا هو الدرس الوحيد الذي اسْتَوعبه السيسي وطبَّقه بكل حذافيره، مع فارق بسيط وهو أن نابليون، برغم آثامه الحربية، كان خادم البورجوازية الناشئة وباني فرنسا الجديدة، وكان السيسي مجرد حفّار قبور.
منذ سبعين عاما لم تعرف المنطقة العربية من أنظمة الحكم غير الممالك وحكم العساكر ببدلة مدنية وأحيانا بالنياشين والحذاء !..
بدأت كل مآسينا العربية بانقلاب عسكري وبيان، هكذا حدث في مصر واليمن والسودان، وفي الجزائر وبلاد الشام.. وهكذا بدأت الدولة الوطنية عهدها: كتيبة من الجند، ودبابة تحرس باب السلطان.. وهناك استطاب للعسكر المقام، فنزع زيّه النظامي ليلبس بدلة الافرنج، والثياب الحريري حين ينام !.. وكذا فعل كل جنرال في وزارة أو عقيد في إدارة حتى نسي الشعب ماضيهم القريب، وظن أنهم بناة الدولة المدنية الاجتماعية الحديثة !..
كانت تلك طريق جمال عبد الناصر، ومن بعده السادات ومبارك، وهكذا كان جعفر نميري وعلي عبد الله صالح وهواري بومدين والأسد.. أما جارنا العقيد فقصة نعرفها، وليس فيها ما نعيد.
وفي نفس الوقت الذي كانت تبني فيه العساكر مؤسسات الدولة المدنية، من أحزاب على المقاس، وبرلمانات الدمى، وحكومات لا تحكم دون إذن من حذاء، كانت يد الجيش الطولى تمتد إلى عمق المفاصل في كل البلد، وتنغرس أظافرها في كل مربع للسياسة والاقتصاد حتى باتت أخطبوطا ليس لأصابعه المتطاولة حدّ.. وبات تغيير النظام مستحيلا إلا إذا فجرت البيت ومن فيه سكن، واقتلعت من الجذور كل الشعب ورميت به إلى محرقة الجوع أو محرقة الموت تحت أقدام العساكر دون همّ !.
ونشأ نمط غريب من الاقتصاد في هذه البلدان زمن السلم: اقتصاد الحرب !.. فالجيش يحمى الحدود، والجيش يحمي الداخل مثلما يحمي السيادة والقصور.. الجيش هو من يؤمن للمواطن أكل الرغيف، وهو الذي يوفر للجميع كل شيء من العجين إلى أدوات الطبخ والصابون، ومن قرطاس اللحم إلى الدشداشة أو سروال الدجين.. فكيف نكفر بربٍّ له علينا مثل هذه النعم، وكيف يمكن التفكير في الثورة على أخطبوط تغلغلت أصابعه في كل اتجاه، وأصبح الوطن لديه كعجين صلصال على كفّ فتى ؟!.
لهذا لم تكن ثورة الخامس والعشرين من يناير سوى وهم ثوري، سراب بقيعة حسبه المصري ماء، وما إن اقترب منه حتى ألفاه، مرة أخرى، حذاء عسكريّا !.
منذ انتهاء حكم الانقليز وثورة الضباط الأحرار، لم يغادر العسكر سدة الحكم في مصر حتى في عهد الاخوان.. فيداه تمسك بعنق الشعب إن شاء خنقه وإن شاء أفلته.. ولعل هذا ما يبرر عنجهية حاكم لا يرعوي مثل المشير السيسي.. فهو يسخر من شعبه، يشتمه ويرفع في وجهه أطول أصابعه، وهو يقتله ويسجنه، ويعذبه ويُكَهْربه… ويعتقد دائما أنه في مأمن من أخطار غضبه !!.
كل الأنظمة العسكرية العربية كانت حالة أخطبوطية، تستحوذ على كل الوطن، تطحنه وتسحقه وترفض قطعيا رفع الأغلال عنه أو إطلاق لسانه.. فقامت الحرب الأهلية في الشام واليمن دون أن تتراجع قيد أنملة.. وقد يمتدّ الاحتراب إلى باقي الدول.
أعتقد أن تونس، برغم ما اعتراها من ضمور في الثقافة والسياسة، وانتشار للفساد، وبرغم فظائع حكامها، وتاريخ طويل من الاستبداد هي إلى حدّ الآن استثناء فريد، استثناء انتهى بثورة البوعزيزي ذات شتاء.. هذا التفرد عنوانه حياد العسكر وزهده في قصر قرطاج، وتبرؤه من فعل السياسة إما لعجز أو تعفّف من سيل الدماء.
•••
عودة إلى الحالة الجزائرية..
الجزائر بلد يحكمه العسكر منذ انتهاء سنتي بن بلّة عشية الاستقلال،.. يحكمه علنا حينا أو من وراء ستار.. قد تتحجَّج بما يبدو لك من انتشار للأحزاب وديموقراطية البرلمان.. ولكن حسبك.. وتأمل معي ما يلي:
• جيش الجزائر نصف مليون من البشر ولا عدوّ يتربص به قريبا أو بعيدا.. ولا حتى في جهة الغرب.
• ميزانية وزارة الدفاع هي ربع ميزانية البلاد، وهي ضعف ما للتربية والتعليم !. هي أكبر حجما من الميزانية العامة للجارة القريبة تونس !.
• الثروة يتقاسمها شقان في هذا البلد: لوبيات رجال الأعمال، ولوبيات جنرالات جيش التحرير.. بينما الشعب مازال يعاني من الفقر والبطالة !
• السلطة الحقيقية هي بيد الجيش، وحصرا بيد رئاسة الأركان التي اصطنعت ولاءات في كل ثكنة وفي كل سلاح من البر إلى البحر والجو..
الأسئلة الجوهرية بعد تراجع بوتفليقة عن عهدته وتقديم رؤيته الإصلاحية هي ما يلي :
هل سيسمح الجيش للربيع الجزائري بالمرور إلى برّ الأمان ؟؟
هل سيتخلى طواعية عن الحكم الذي طالما احتكره لعشرات السنين ؟
هل سيتراجع مجتمع المال والفساد، وينصرف كل جنرال إلى ملذاته الدنيوية من غير سلطان ليصبح المجال ممكنا لديموقراطية حقيقية تكون عنوان الجمهورية الثانية الجزائرية ؟
أم هي التراحعات التكتيكية كما شاهدناها من قبل في مصر واليمن ثم الالتفاف على إرادة الشعب في الوقت المناسب ؟
هل هو درس الإلتفاف على الثورة يستعاد بخبث، ومرة أخرى يظهر بونابارت إمبراطورا ولكن دون زيّ رسمي كما كان ؟
ذاك ما ستبيّنه الأيام.