Site icon تدوينات

توحّش الإهمال… وترنّح المؤسسات العمومية

بشير ذياب
أمام هذه المصائب المتتالية من المؤسسات العمومية التي أصبحنا نستفيق كل يوم على إحدى فاجعاتها سببه الأول والرئيس هو “توحّش الإهمال” داخل الإدارة العمومية، وحين نتحدث عن عسكرة الإدارة، لا نعني أن يتولى العسكر السلطة، أو أن يعين عسكريون على رأس الإدارات، لأننا بهذه الطريقة نكون قد إستبدلنا مسؤولا عسكريا ناجحا بمسؤول مدني فاشل، فالعسكريون مكانهم المنطقي داخل الثكنات وفي الدول التي تحترم نفسها وشعبها العسكريون إما في حالة حرب أو في حالة إنتظار لحالة حرب، وإنما المقصود بعسكرة المؤسسات العمومية هي روح الأداء العسكري داخل الإدارة، الإنضباط في السلوك، إحترام السُّلم الترتيبي داخل المؤسسة، تحديد المسؤوليات لكل موظف داخل الإدارة، وسريان القانون على الجميع دون إستثناء “ولي يغلط يخلّص” و “تبكي أمك وما تبكيش أمّي”.
ما نعيشه اليوم من إنخرام داخل المؤسسات والإدارات العمومية لا يمكن أن نعزوه فقط لنقص الإمكانيات وتوقف الإنتدابات… فالمشكلة إدارية بالأساس، المشكلة الرئيسية هي إنخرام المنظومة القانونية داخل المؤسسات وتداخل الصلاحيات وعدم إحترام السُّلم الترتيبي في تسيير الإدارة… حين تعجز الوزارة على تعيين مدير في مستشفى أو إدارة، أو يعجز رئيس قسم بمستشفى على تركيب “كاميرات مراقبة” داخل غرفة عمليات أو يعجز طبيبا على تسيير ممرّض، وحين يعجز رئيس قسم على تفقد مدى حضور أعوانه محاسبتهم… ولو بقينا نعدد أنواع القصور الإداري لألفنا كتبا، حينها لا يمكن إلا أن تكون النتيجة في حدّها الأدنى ما تعرّض له الرضّع في الطابق الثالث من مستشفى الرابطة، والقادم أعظم.
ما يحدث في قطاعات الإعلام والتربية والصحة هو ضرب ممنهج لسيادة “الشعب” ولا أقول لسيادة الدولة لأن المخيال الشعبي للعرب يربط الدولة بالنظام والسلطة، وهذا العجز الذي أصبحت عليه السلطة السياسية لا يمكن من خلاله قيادة عملية إصلاح شاملة للمؤسسات والإدارات، حين تكون هناك قوّة أخرى في البلاد أقوى من الدولة تفقد الدولة قيمتها، وشعار “الإتحاد أكبر قوّة في البلاد” هو تكريس ممنهج لضرب هيبة الدولة و”تشليك” ممنهج لهيبة مسؤوليها داخل المؤسسات وبالتالي دعوة للتسيب والإنخرام وعدم تطبيق القانون، وما تأتيه بعض النقابات من “تبوريب” داخل الإدارات والمؤسسات العمومية بالذات محفّزا أساسيا لتوحش الإهمال والتسيب داخل هذه الهياكل.
ما الذي ستقوم بهذه اللجان المكلفة بتحديد أسباب “المصائب”، اللجان ستتحدّث من الناحية التقنية عن خلل طرأ لسبب من الأسباب، وقد تكون النتيجة أنّ مثل هذه الأخطاء تقع حتى في أكثر الدول تقدما، لكن ما يسكت عنه الجميع هو أن هذا التسيب والإهمال ونظرية “رزق البيليك، وبروط جاك الشاف…” الموروثة عن دولة الإستقلال هي خصوصية تونسية أو إستثناءا تونسيا، يتغافل عنه المدّعون لحداثة الدولة الوطنية، حداثة المجتمعات تقيّم بجودة الخدمات ونظافة الشوارع والمؤسسات، وإحترام القوانين المنظمة لحركة المجتمع ونظافة حدائقها ومدى تطوّر منظومة قيمها الإجتماعية والإنسانية التي تنظم العلاقة بين أفراد مجتمعها ومدى تطور الخدمات التي تقدمها الدولة للمجتمع من طرقات وجسور ومستشفيات وسكك حديدية ونقل عمومي… فأن نتحدّث دون حياء عن الحداثة ونحن في هذه الحالة من الإنحطاط لا يمكن أن نخطو خطوة إلى الأمام، وإذا كان من لا يتقدم يتأخّر ضرورة فإننا نسارع خطواتنا إلى الوراء.
إذا كانت هناك نية للإصلاح، يجب أن نبدأ بالإصلاحات الغير مكلفة أولا، وأنا على يقين أنه لو كانت هناك قدرة على محاسبة كل موظف على أدائه وكل عامل على واجبه، وكل مسؤول على مرؤوسيه لقطعنا نصف المسافة في الإصلاح “بصفر تكلفة”، فكما أن الحكم منظومة فإن الإهمال منظومة والفساد منظومة… وللقضاء على هذه المنظومات السرطانية التي تخرّب بإستمرار نسيج المؤسسات العمومية فإنه على الدولة أن تقطع مع ثقافة “رزق البيليك” والسبيل الوحيد لذلك هو تطبيق القانون وقبله تعيين مسؤولين أكفاء و”نظاف” لا يخشون ملفات تحت يد الخلايا السرطانية، وأن تكون الدولة هي “أكبر قوة في البلاد”.

Exit mobile version