مقالات

هل أتاك حديث الكرذونة ؟

القاضية روضة القرافي
لا تفسير للكارثة التي أدت إلى وفاة أحد عشر وليدا بمستشفى الرابطة سوى ان الولدان الضحايا هم ابناء المفقرين المستضعفين الذين لا قيمة لحقهم في الحياة والمعاملة الإنسانية الكريمة في مجتمع المنوالين والمواطنين من درجتين. فإن كانت لحقوق المستضعفين أية قيمة فمن المفروض أن تترجم الفاجعة إلى مسؤوليات سياسية وإدارية وجنائية… وذلك ما لن يحصل طبعا.
ففي مجتمع المنوالين والدرجتين في سائر الحقوق: في الصحة والتعليم والنقل والعدالة… لن تقع محاسبة أحد على هضم حقوق من لا تزن حقوقهم مثقال ذرة. أما الآخرون المرفهون فمطمئنون على رفهاهم وسلامة حياة أبنائهم صغارا يعالجون في أحسن المصحات إذا ما احتاجوا الى العلاج وكبارا يؤمن لهم مستقبل تصنعه لهم أفضل الجامعات التي يرسلون اليها على نفقة آبائهم الكرام. هم يا سادة لا يعرفون المستشفيات العمومية الرثة ولا المدارس المهملة التي تغيب فيها أبسط المرافق فتستشري فيها أمراض الماء الملوث ودورات المياه القاتلة ولا النقل العمومي المتروك للازدحام والفوضى ولا المحاكم ولا السجون التي يتكدس فيها الخلق لا أحد يعمل بجد من أجل تحسين فعلي لكل هذه الأوضاع بما يتناسب والمعايير الدنيا للكرامة الإنسانية والبشرية وللعدالة الاجتماعية. هؤلاء المواطنون من ركاب الدرجة الأولى لا يعرفون خاصة المحاسبة في مجتمع الامتيازات واللوبيات والتكتلات القطاعية والتحصن داخل السلط والإدارات و”أنصر أخاك ظالما أو مظلوما”.
ليست قضية الولدان الضحايا أول قضية تهدر فيها حياة الناس الذين يعانون من عذابهم في الأرض أو حياة أبنائهم. ستحفظ القضية في أدراج النسيان وستمحى من ذاكرة السياسي والإداري والإعلامي والقضائي…
فهل فيكم من لا يزال يسمع خبرا أو متابعة لقضية رضيعة سهلول التي لا أحد يعلم إن كانت ولدت ميته أم حية غير أنها فارقت الحياة متجمدة فوق الرخام وسلمت هي أيضا إلى أهلها في كرذونة… أو فيكم من له خبر عن قضية المريض الذي حقن دما ليس من فصيل دمه فمات في عملية جراحية بسيطة لعلاج كسر بمستشفى قابس أو عن ملفات عشرات الأمهات اللاتي قضين في زهرة العمر وهن يضعن ولداهن في الجهات المهمشة ولا ذنب لهن سوى أنه لا حق لهن هناك في رعاية متخصصة في هذه المنطقة أو تلك من المناطق المهمشة التي يغيب فيها طب الاختصاص أو عن قضية شبكة الفساد في التصرف في الأدوية في مستشفى صفاقس وعن قضية حوادث المرور الوهمية في سيدي بوزيد التي دلست فيها المحاضر وخاصة الشهائد الطبية من داخل المستشفى وعن وعن وعن…
الكردونة سياسة وليست وعاء
إن واقع الكرذونة بما يعنيه من عقلية وممارسة متحجرة ومتجذرة في واقع الفساد والحقرة داخل كل المؤسسات ومنها المؤسسات الصحية التي تقوم على إنكار الكرامة البشرية وأبسط الحقوق الأساسية عبرت عنه في الأيام الأخيرة بكامل الوثوق والقناعة ودون حرج مديرة الصحة العمومية في شريط أنباء الثامنة على الوطنية 1 قالت المسؤولة وهي على ثقة من أمرها أن تسليم جثث الولدان هو مطابق للمعايير الدولية (هكذا). لان الوليد الميت لا يسلم في أيدي والديه دون وعاء. قد يكون تسليم الجثة الى أهلها دون مكان يحفظ هيبة الموت أمرا صحيحا غير أن السيدة المديرة جنحت إلى مغالطة الرأي العام والتغطية عما حصل بخصوص تلك الطريقة المشينة في التعامل مع جثة الميت وتسليمه بأسلوب يقتضي الاحترام والإكرام خاصة في مثل تلك الظروف المفجعة والقاسية.
الم يكن بإمكان إدارة المستشفى والوزارة وهما تديران أزمة وكارثة بهول التي وقعت وتداعيتها على الأمهات والإباء إنسانيا وإعلاميا أن تنفق بعض الدنانير من ميزانية المستشفى لتخصيص أمهدة ؟ “Des Landaus”بأسعار اقتصادية يسلم فيها الولدان لأهاليهم. لكنها فضلت وهي مرتاحة “الضمير” تبرير سلامة عملية وضع الرضع في كرذونة السلع التي تستعمل فيما تستعمل لجمع النفايات للتخلص منها بإدراجها حقا أو باطلا ضمن المعايير الدولية التي قد تكون بريئة من صنع أيدينا.
شعب بلا ذاكرة
لست متأكدة بعد الذي وقع رغم فداحته ان الأمر سيتغير كثيرا في محاسبة المسؤولين على هول هذه الكارثة طبيا وسياسيا وقانونيا وأخلاقيا. فعبارة “فتح تحقيق” سواء إداري أو عدلي تكاد تصبح جملة ممجوجة إن لم تكن آلية لامتصاص غضب حيني حتى لكأنها أصبحت مرادفة للإفلات من عقاب بفعل الزمن والتجاهل والنسيان المؤسيين. فلا نتائج ترجى تقريبا من تحقيقات لا تنتهي إلى شيء محدد أو مسؤولية محددة. فالإفلات من العقاب والعدالة التي لم تحقق الى حد الان في كثير من الجرائم التي ذكرنا البعض منها في طالع مقالنا أهدر ضمانة عدم التكرار والعود.
تضاعفت الجرائم وغابت المسؤوليات فلا تتعجب إذا أتاك حديث الكردونة مرة أخرى لأن الكردونة ليست مجرد وعاء يوضع فيه الوليد الميت فقط… إنها مستودع كثير من الجرائم التي تدس هناك في صمت لتدفن لاحقا طي النسيان…
نحن شعب سريعا ما نتأثر… سريعا ما ينسى…
نحن شعب بلا ذاكرة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock