الجهاز الذي لم يعد سرّيّا
نور الدين الغيلوفي
بعد الذي قاله محامي مصطفى خضر
ليس أسوأ من أحزاب سياسيّة أو هيئات اجتماعية تختزل برامجها في تزييف الوعي والتلبيس على الناس لمجرّد التنكيل يخصم سياسيّ أعجزها وقهرها بتفوّق أدائه على أدائها وبتعاليه عليها وصبره على أذاها.. وبدل أن تدخل معه في منافسة تحت سقف الشرف نراها تحرق الأخضر واليابس نكاية به… هي أحزاب وهيئات أشبه بالعصابات وأقرب إلى كيانات مَرَضيّة تزرع العبث وتتلهّى بحرق مخالفيها وهي، في الحقيقة، لا تفعل غير حرق نفسها عندما تضرم، من فرط حقدها، النارَ في الأرض التي يقف عليها خصومها معها…
لم أمِلْ يوما إلى تصديق تلك الهيئة المسمّاة بهيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي التي ليست سوى نسخة سياسية يسارية نشأت على هامش الجبهة الشعبية.. وما الجبهة الشعبية في نظري سوى الفصيلين اليساريين الوطد وحزب العمّال التونسيّ الذي لم يعد شيوعيا، وما (نعم وما) سار في ركابهما من منتسبي الفكر الماركسيّ القديم بمختلف تفريعاته اللينينيّة والستالينيّة والتروتسكيّة والماويّة الراجعة بالنظر إلى مختلف دول المعسكر الاشتراكي التي تعود إلى عهد ما قبل سقوط جدار برلين، بمختلف تفريعاتها وتحريفاتها.. هؤلاء هم عَصَبُ الجبهة الشعبية أمّا بقيّة المكوّنات فهي مجرّد زوائد اسمية لتكبير القائمة حتّى يقال إنّها جبهة سياسية حقيقية تصدق نسبتها للشعب.. جبهة يمكن أن تكون يوما ما بديلا سياسيا ما في دولة افتراضية ما اسمها الجمهورية التونسيّة بأسماء لأحزاب وكيانات لا يعلم عنها أحد من الناس شيئا.. وحتّى الشعب الذي تنتسب إليه إن هو إلّا شعب قوليّ.. افتراضيّ…
قلت لم أمل يوما إلى تصديق ما روته تلك الهيئة للأسباب التالية:
الأوّل: أنّ حركة النهضة التي عانت ما عانته من ويلات طيلة تاريخها واشتملت على مناضلين كثْرٍ، قد يقال فيها وفي مناضليها الكثير من النقد والتجريح، وليس أحد منهم منزَّها عن قول يقال فيه، ولكنّها لا يمكن أن تكون بذلك الغباء الذي بيّنته وثائق الهيئة المزعومة فتجعل نفسها، بمثل تلك السهولة، في مرمى نيران خصوم تعلم أنّهم يرجون لها العدَمَ مصيرا.. وينتظرون لها الإعدام مآلًا.. ولا يستثنون ولا يتعبون…
الثاني: لا يمكن لأيّ مواطن بسيط لقي حدّا أدنى من التعلّم أن تنطليَ عليه أكاذيب مفضوحة وسيناريوهات ضعيفة لا يملك كتّابها أدنى مهارات الإحكام.. خيال ضعيف جدّا لا ينتج غير قصّة هزيلة بادية العَوار يمسك بطرفيها حمّة الهمّامي وزوجة بلعيد.. وهما كلاهما “أعيا من يدٍ في رَحِمٍ”..
افسحوا المجال لعقولكم ستقول لكم إنّ القصّة كلّها مفبركة.. فبركتها جهةٌ تعوّدت على كتابة وشايات تحت الطلب.. لم تتطوّر ولم تحسّن أداءها ولم تحيّن خيالها.. ولم تراجع لها درسًا، من يوم أغلقت دار التقدّم بموسكو بابها.. ونحن لم ننس ما كان يصنعه حمّة الهمّامي ورفاقه من الوطد لتشويه الإسلاميين وترتيب التّهم لهم في أروقة الداخلية وبين المخافر المظلمة وداخل الزنازين.. سيبقى ما فعلوه يلاحقهم ولن ينساه لهم التاريخ.
الثالث: أنّ الخصم لا يمكن أن يكون قاضيا.. ومتى انتصب الخصم قاضيا فقد اعتدى على العدل وانتهك الحقّ وفقد قدرته على الإقناع وفارق كفاية التأثير.. وكان ما يصدر عنه أقرب إلى الهذيان الذي لا يجلب احترامًا…
اختارت حركة النهضة أن تسكت عن كيل الاتهامات الموجَّهة إليها وفسّرت ذلك بأنّ المماحكات لا تصلح محاكمات وأنّ المحاكمات لا تكون على المنابر الإعلاميّة وأنّ التقاضي لا يتمّ إلّا في أروقة المحاكم صَوْنا للعدل واحتراما للقضاء..
وقد تكون الجبهة الشعبية بمختلف أذرعها المنتشرة بالبلاد نجحت في التلبيس على الناس بتشويه أقوى خصم لها في المشهد السياسيّ ولكنّها لم تنجح في إقناع الناس بأفكارها وكسب تعاطفهم مع أطروحاتها واجتلابهم إلى برامجها وتوسيع جماهيريتها.. وإن تكن نجحت في شيء ففي ترذيل السياسة وتشويه أهلها لدى الرأي العام الذي تحوّل من زمن الموات السياسي قبل الثورة إلى عهد العبث السياسيّ بعدها.. فلا هو فهم السياسة في زمن الموات ولا هو تعلّمها في زمن العبث.
حضر محامي المدعوّ مصطفى خضر، لأوّل مرّة، فقال كلاما نسف به ماجاء في مهرجانات هيئة الدفاع عن الشهيدين، في العاصمة وبين المدن، من كلام ظهر أنّه بلا أساس.. وقد لفتني في كلام المحامي أمور منها:
1. أن الهيئة اعتمدت التدليس بوقوفها عند “ويل للمصلّين” وذلك عندما أظهرت للعموم مبلغ 300 مليون قسطا أوّل حصل عليه قاتل شكري بلعيد وغفلت عن ذكر اسمين على صلة بالمبلغ هما حمّة الهمّامي وكمال لطيّف.. وهما على اتّصال بالإرهابيّين كما ورد بالوثيقة… في حين أنّه لا ذكر فيها لعلاقة حركة النهضة من قريب ولا من بعيد بالمبلغ الماليّ المذكور.
2. أنّ لجنة الدفاع لم تقدّم شكايات ولكنّها فعلت وشايات.. فهم يحاربون خصما سياسيا باستعمال القضاء.. ولمّا كان القضاء بدأ يتعافى ويتحرّر من سطوتهم فقد سعوا في تلويثه بتشويهه والتشكيك في نزاهته…
3. أنّ مقابلات تمّت خارج البلاد ذُكرت فيها ثلاث شخصيات لم تتحدّث عنها الهيئة التي امتنعت عن ذكر حمّة الهمّامي وكمال لطيّف والباجي قايد السبسي.. مقابلات تمت قُبَيْلَ عملية اغتيال شكري بلعيد و بُعَيْدَها…
4. وممّا ذكرته الوثيقة طلب السبسي وحمّة الهمّامي كليهما شخصا ينفّذ عمليّة معيّنة لقاء أجر ماليّ…
الكلام ورد على لسان محامي المدعوّ مصطفي خضر.. وقد كان الرجل يتحدّث استنادا إلى وثائق ولا يصدر في كلامه عن فراغ.. وهو محام ينوب موكِّلًا يقضّي عقوبة بالسجن من أجل تهمة حوكم بسببها.. وقد ذكر المحامي أمرا هامًّا عندما قال: إنّ الجبهة الشعبية لن تربح حركة النهضة في الانتخابات باعتماد هذه التلفيقات ولكنّها إنّما تُلحق الضرر بموكّله السجين.. وهم بذلك إنّما يعبّرون عن فشل سياسيّ وعجز انتخابيّ وسقوط أخلاقيّ…
ولن ينهض بلد تتاسقط نجوم سياسته في كلّ يوم…
https://www.youtube.com/watch?v=iEfvmQ2JpUk