علي المسعودي
الدولة الحديثة هي سلطة شرعية تقوم بالجباية مقابل إسداء خدمات. وجوهر هذه الخدمات التعليم والرعاية الصحية. وفي غياب هذا الجوهر الخدماتي تفقد الدولة مشروعيتها ولا تعدو أن تكون لصا أو قاطع طريق.
بالطبع لا تخلو برامج بعض الأحزاب الليبيرالية من سعي لتحرير الدولة من هذا العبء في إطار رؤية شاملة لخوصصة كل القطاعات.. هذه الدولة اللااجتماعية، دولة الرخاء والرفاه العظيم لا تناسبنا.. وقد لا تناسب أي مجتمع.
•••
التعليم العمومي اليوم، يشبه شركة على حافة الإفلاس بسبب نقص الموارد. منتوجات فاسدة لم تعد تلق رواجا، وعمالة تبحث عن مسالك للهروب نحو الأسواق العالمية. دورة التعليم فقدت كل نجاعتها وانصرف عنها المريدون.. أجزاء جامعية مستحدثة في الآداب في وقت يشكو فيه حتى المهندسون والتقنيون من البطالة… ولا بأس مع ذلك أن يكون محور الصراعات الحزبية في كل انتخابات هو مسألة الهوية.
الصحة العمومية بدورها أصبحت فضاءا للموت غير الرحيم: لا دواء، لا أطباء، لا تجهيزات.. أو حتى سيارات إسعاف. ويكاد يصفها بعض العاملين فيها بأنها مثل مارستانات العصور الوسطى للمجانين…
أعرف بعض المقربين ممن يرفضون زيارة المستشفى حتى في حالات الكرب الشديد.. هو يريد، إن أزف الموت، أن يرقد بين أهليه بسلام.. وليس متروكا لقدره في أحد الأروقة المكتظة كأنه مصاب بلا أمل في أحد المستشفيات الميدانية على تخوم العدو !.
ولا بأس مع ذلك أن ننشغل عن هذا البؤس بالحديث عن مسألة الهوية في كل انتخابات تشريعية أو رئاسية.
•••
حياتنا السياسية هي سوق للشعوذة بامتياز.. لا برامج حزبية ولا رؤى مستقبلية.. ولا حتى مؤتمرات تأسيسية. ومع ذلك يستطيع الجميع القفز إلى السلطة بشيء من الحظ، وكثير من العملة والعمالة الأجنبية، والظهور الفارغ، في بلاتوهات الحوارات المدفوعة الثمن.. ثم هم لا يحدثونك إلا عن الإرهاب.. إلى أن صدق الإرهاب قوته وانتصر في حرب لم يطلق فيها رصاصة واحدة.
هذا الفشل المقيم في منظومة التعليم، وهذه الجريمة اليومية في قطاع الرعاية الصحية هي بعض من انتصارات الإرهاب الذي لا نراه !.. النساء اللاتي يمتن في أقسام التوليد، والأطفال الخدج الذين يقضون بسبب وجود الدواء أو نفاذه على حد سواء هم أيضا ضحايا للإرهاب.
فالمليارات التي تم تحويل وجهتها من الميزانية العامة إلى وزارتي الداخلية والدفاع كان من الأجدى أن تذهب إلى الصحة والتعليم حتى نجفف منابع الإرهاب البشرية من المتسربين والفاشلين والناقمين، وحتى يؤمن المواطن بأن هناك دولة ترعاه وتوفر له حدا أدنى يغنيه عن البحث عن بديل لها.
مأساتنا كمواطنين ووطن أننا نعيش حالة إرهاب مضاعف: الدولة ترهبنا من خلال تخويفنا من ظاهرة الإرهاب حتى تنصرف لتعزيز مخالبها الأمنية على حساب تعليمنا وصحتنا، والإرهاب يقتلنا كلما ظفر بواحد منا ليقول: انظروا لا عاصم لكم منا !
•••
أكاد أجد، اليوم، للأناركيين والفوضويين تبريرا لتفكيرهم القصووي لأنهم رأوا في الدولة ما لا نراه: مجرد عصابة وشرذمة لصوص.