مؤامرة على الجزائر !
فتحي الشوك
للأسبوع الثّاني على التّوالي تتواصل الاحتجاجات الشّعبية الرّافضة لترشّح الرّئيس الجزائري “المنتهية ولايته” عبد العزيز بوتفليقة للمرّة الخامسة، لتزداد زخما وتتوسّع رقعتها الجغرافية و لتشهد انضمام فئات واسعة من المجتمع الجزائري الّذي أظهر درجة من الوعي والتحضّر ما جعل العالم يرفع القبّعة لشعب المليون ونصف مليون شهيد.
مازالت التّظاهرات المختلفة تلتزم بسلميّة رائعة وتنظّم عفوي ليس له مثيل، ومازال البعض، من المرتعشة أيديهم والمرتجفة قلوبهم والمرعوبين من تغيير قد يهدّد مصالحهم، ينشرون اليأس والإحباط وليروّجون لإمكانية انجرارها إلى مربّع العنف منذرين بكارثة وانفراط لعقد وفوضى قد تأتي على الأخضر واليابس إن استمرّ هذا الحراك الشّعبي المشكّكين في عفويته، متسلّحين كالعادة بنظرية المؤامرة.
فهل هي فعلا مؤامرة تستهدف الجزائر وشعبها؟
الجزائر بين ما كان ويجب أن يكون:
يعتبر الجزائر أكبر بلد عربي وإفريقي مساحة ومقدّرات طبيعيّة وبشريّة ممّا كان يؤهّله لقيادة قطار التّنمية والتقدّم في الوطن العربي وإفريقيا، بيد أنّنا نجده اليوم يتذيّل القائمة لتسبقه بأشواط بلدان أخرى لا تملك ما يملك.
ضحّى الشّعب الجزائري بقرابة المليون ونصف مليون شهيد ليتخلّص من استبداد خارجي متوحّش وليحقّق استقلالا مستحقّا يعتبر فريدا في ظلّ صفقات الاستقلال المزيّف الّذي شهدته بلدان أخرى في إطار تنشئة الدّول الوظيفية.
كانت البداية واعدة لينحرف المسار ولتنضمّ الجزائر كغيرها إلى خارطة الاستبداد العربي المتوحّش إلى حدود تسعينيات القرن الماضي حيث ظهرت بوادر لتغيير أجهضت لتعيش عشرية دموية سوداء ذهب ضحيّتها أكثر من مائتي ألف إنسان، ولتعود مرّة أخرى إلى حظيرة الاستبداد المعدّل والمزيّن بهامش حريّات وديمقراطية شكلية للتّنفيس ولتمكين من يحكمون فعلا في الاستمرار في حكمهم، هم جنرالات الجيش وبارونات الفساد، الغابة الّتي تتخفّى وراء شجرة وتستظلّ بظلّها، شجرة لا بدّ منها حتّى وإن تساقطت أوراقها وغابت ثمارها ويبست جذوعها، حتّى وإن اختزلت في عود تحطّب لا يصلح إلاّ للاتّكاء عليه أو لهشّ الغنم أو لمآرب أخرى.
وان كان لابدّ حسب رأي البعض من شجرة يستظلّون تحتها فهل تصحّرت كلّ أرض الجزائر وعجزت عن أن تنبت أخرى؟
في انطلاقتها كانت الجزائر لا تختلف كثيرا عن بلد مثل الهند وتسبق بأشواط آخر كأثيوبيا غير أنّها كبقيّة منظومة الاستبداد العربي استثمرت في تدمير الإنسان بينما استثمرت البلدان الّتي تشهد اليوم قفزة نوعيّة في بنائه وجعلته في جوهر اهتماماتها.
أيّة مؤامرة؟
أيّة مؤامرة يتحدّث عنها البعض، من المتمعّشين من نظام فاسد ومن مداخلة الدّاخل والخارج، ومن المرتعشة أيديهم والمرتجفة قلوبهم، المرعوبين من تحرّك لمياه راكدة؟
أيّة مؤامرة أكبر من تلك الّتي يتعرّض إليها الرّئيس بوتفليقة الّذي لا يعي ما يجري حوله ولا يستطيع أن يعبّر عن رأيه في ترشّحه في استغلال لا انساني لمرضه وعجزه؟
أيّة مؤامرة أفظع من ارتهان حاضر ومستقبل شعب عظيم مشحون بالحياة وبالقدرة على العطاء لأجل بعض القروش المستكرشة النهّمة الّتي لا تشبع ؟
ليس غريبا أن يستنفر المنتفعون من واقع الفساد والإفساد حين تهدّد مصالحهم ليشغّلوا تلك الاسطوانة المشروخة الّتي يلجأ إليها كلّ مستبدّونا فيصمّون أذاننا باجترار كلمات معتادة عن مؤامرة كونيّة تستهدفهم بمشاركة الإنس والجنّ وكائنات فضائية إن استلزم الأمر، وليتمّ استحضار تلك المعادلة الّتي لا بدّ منها: امّا نحن أو الفوضى، امّا الأمن أو الإرهاب، إمّا نحكمكم بالحديد والنّار أو نصبّ عليكم حديدا ونارا.
وهم منذ اندلاع ثورات الرّبيع العربي وهم في حملاتهم المحمومة لإجهاضها ولجعل من يرنو التغيير يندم على اللّحظة الّتي فكّر فيها في ذلك ليكفر الجميع بالثّورة ومشتقّاتها وليصطفّ الجميع في قطيع ويعودون طوعا إلى إسطبلاتهم. وليس عجيبا أن ترتفع أصوات المداخلة والجامية المكفّرة لكلّ فكرة للتغيير فهي ممارسة طبيعية لوظيفتهم الّتي صنعوا لأجلها من قبل منظومة الاستبداد العربي المرتعد من أيّة محاولة من الشّعوب العربيّة لاسترداد حرّيتها وكرامتها وتحقّق مواطنتها المصادرة.
النّظام الفاشي الشمولي العربي هو واحد ولم يتوحّد إلاّ في مجال الاستبداد والتسلّط وهو يعتقد أنّ ما يجري في الجزائر والخرطوم له ارتدادات حتمية في الرّياض أو أبو ظبي أو القاهرة لذلك يسعون لإخماد أيّة محاولة لتغيير واقع يعتبروه من قبيل تضاريس الجغرافيا وقضاء وقدر.
لكن ما يثير الدّهشة أن تصدر أصوات ممّن نعموا بالحرّية بفضل ثورات الحرّية تستكثر أن تطالب شعوب أخرى بما حصلوا عليه، تحترز وتشكّك وتخوّف من إمكانيّة حصول تغيير في الجزائر وكأنّها مفروض عليها بأن تكون جثّة ميّتة تحمي ظهورهم ليتمكّنوا من تثبيت مسارهم ومواصلة مشوارهم. وكأنّ الجزائريين لا يستحقّون حياة أو حرّية أو كرامة أو مواطنة.
قد تكون هواجس البعض مبرّرة من باب الخوف من الانزلاق في الفوضى في بلد ممتدّ تتربّص به بعض الأيادي العابثة والآثمة تحرّك شرقا وغربا، لكنّ ذلك يعتبر استنقاصا من قيمة وعي الجزائري وممارسة لوصاية فكرية عليه ومصادرة لحقّه في تقرير مصيره ولرغبته في التطلّع نحو حياة أفضل تضمن له الحرّية والكرامة والمواطنة الحقيقيّة.
ويبدو أنّ تلك الهواجس قد تضخّمت عند البعض من المرتجفة قلوبهم ممّن يظّنون أنّ الثّورة حقّقت لهم ما يكفي كتحسين لشروط العبوديّة، مع أنّها اندلعت عفويّا، كهبة ربّانية لأجل تحقّق تغيير حقيقي تكتمل شروطه بتغيير الأنفس.
لا شكّ أنّ ما يقع في الجزائر وفي السّودان وفي فلسطين هو موجات ثوريّة جديدة في طريق التحرّر المواطني العربي وهي ارتدادات للرّبيع العربي ووجب الحذر من المطبّات السّابقة: التحزّب وركوب السّاسة الانتهازيين على الأحداث واختراقها من قبل الأصوليات المقدّسة أو المؤدلجة. ما يطمئن أنّ مشعل التّغيير يحمل الآن بأياد جزائرية وهي من عوّدتنا أن تنجز بالكامل كلّ فعل تتبنّاه. للثّورة تموّجات ونكسات وهي متى اندلعت فغالبا ما تحقّق أهدافها، فتلك عجلة التّاريج ومن لم يفهم حركته فحتما ستدوسه.
لنختتم بما قاله شاعرنا الفذّ ابو القاسم الشّابي:
إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
كَذلِكَ قَالَـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ وَحَدّثَنـي رُوحُـهَا المُسْتَتِر
وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر.