عادل بن عبد الله
من المؤكد أن النهضة ليست هي “الخطاب الكبير” في الحقل السياسي التونسي، فهي ليست الخطاب المرجعي أو المعياري الذي يتنافس باقي الفاعلين السياسيين على الاقتراب منه أو محاكاته لاكتساب الشرعية أو الشعبية. ولكن من المؤكد أيضا أنها الفاعل الأساسي الذي ندر ألا يستحضره خطاب سياسي أو مدني أو نقابي أو إعلامي، سواء بصورة صريحة أو ضمنية. فالنهضة أقرب ما تكون إلى موضوع “الازدواجية النفسية” (l’Ambivalence) المعروف في علم النفس، حيث تحمل خصومها على التعاطي معها بشعورين متناقضين في اللحظة ذاتها: فهي موضوع “كره” لما تُمثله من تحدّ للحقل السياسي “اللائكي” بحكم مرجعيتها الإسلامية، ولكنها أيضا موضوع “إعجاب”، أو على الأقل موضوع حسد بحكم شعبيتها واتساع قاعدتها الانتخابية.
ولا يعنينا في هذا المقال تبيان دور النهضة في تعميق هذا التعاطي معها بين أغلب النخب الحداثية، كما لا يعنينا عجز تلك النخب الحداثية عن تجاوز الصورة النمطية للنهضة وللإسلام السياسي ككل، بل إن ما يعنينا هو أن نحاور هؤلاء جميعا (خاصةً النهضويين) في ضرورة تعديل استجاباتهم أو ردود فعلهم تجاه النقد الذي يوجه لهم من مواضع مختلفة، لكنهم ما زالوا يتفاعون معها (في الأغلب)، وكأنها تصدر من موضع أوحد: موضوع العداء الوجودي المحكوم بمنطق الاستئصال.
ولا شك في أن اختزال النهضويين لخصومهم في صورة نمطية واحدة هو رد فعل “بافلوفي” يُسطّح الواقع ويتعامل معه باختزالية كبيرة؛ تزيد في عزلة النهضة وفي اغترابها عن باقي الشركاء السياسيين. ولكنّ تلك الاختزالية تظل أمرا مشروعا إلى حد ما، فإحساس النهضويين المتضخم بأنهم مستهدفون بصورة نسقية، وبأنهم غير معترف بهم بصورة مبدئية ونهائية في الحقول السياسية والمدنية والإعلامية (بل حتى في الإدارة والنقابة)، يجعلهم يديرون علاقاتهم بأي نقد يُوجه لهم بتوجّسٍ كبير. فالكثير من النخب “الحداثية” لم يكونوا بعيدين عن الآلة القمعية الأيديولوجية المساندة للآلة القمعية البوليسية، وهما الآلتان اللتان أدار بها المخلوع ابن علي الهولوكست ضد النهضويين والمتعاطفين معهم في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
مهما كان محصول تجربة “الترويكا” (أي الحكومة الثلاثية بقيادة النهضة ومشاركة حزبي التكتل والمؤتمر)، ومهما كان موقفنا من أدائها في علاقتها باستحقاقات الثورة، أو على الأقل بالانتظارات “الإصلاحية” لعموم التونسيين، فإنها قد كانت بلا شك خطوة تقدمية في الحقل السياسي التونسي، بل في الحقل السياسي العربي كله. إنها أول تجربة يحكم فيها الإسلاميون والعلمانيون “معا” بناء على إرادة الصناديق. ولكنها أيضا بحكم طابعها “التأسيسي” لم تكن تجربة مثالية، بحكم عطالة ذاتية وسوء إدارة للحظة الثورية ولمؤسسات الدولة من جهة أولى، ومن جهة ثانية، بحكم الاستهداف الممنهج من لدن أغلب القوى “اللائكية” التي لم تعترف بعدُ بالثورة، ولم تستطع التخارج مع ترسّبات المنظومة الاستبدادية الطاردة لأي وجود إسلامي “قانوني”، بما فيما ذلك الوجود الإسلامي الذي تجاوز منطق “المشروع البديل” إلى منطق “الشريك” في المشروع المجتمعي ذاته.
بصرف النظر عن شرعية المخاوف النهضوية من الخطابات الاستئصالية المهيمنة على اليسار الثقافي الفرنكفوني المتمثل خاصة في الجبهة الشعبية وفي بعض التشكيلات ” التجمعية الجديدة”، فإن تعميم هذه المخاوف على كل الخطابات النقدية يبدو أمرا مبالغا فيه، بل يبدو سببا من أسباب العطالة التي تهيمن على الحقل السياسي التونسي. فأغلب الانتقادات غير “الهووية” (أو غير المصاغة بروح النفي وبمفردات الحرب، خاصة من طرف حزب التيار الديمقراطي وبعض الأصوات المستقلة) تجعل النهضة في مواجهة إحراجات حقيقية تتصل بالقضايا التالية:
1. الخيار الاستراتيجي النهضوي بـ”دخول الدولة” والتطبيع مع أجهزتها، بل التطبيع مع نواتها الصلبة التي كثيرا ما عبّرنا عنها في كتاباتنا السابقة بـ”المركّب الجهوي-المالي-الأمني”. فمهما كانت تبريرات النهضويين لهذا الخيار، فإنها تظل تبريرات صالحة للاستهلاك “الداخلي” (أي بين القواعد الحزبية)، ولكنها لا تصلح إلا قليلا عند التوجه لمن هم خارج الحزب. فأن ترفض النهضة الدخول في مواجهة مع مراكز القوى المتحكمة في “الدولة العميقة”، وأن تقبل بـ”التوافق” مع الواجهة الحزبية لتلك اللوبيات هو أمر قد يجد تبريره في “العقل المتحزب” (التجربة السابقة أوائل التسعينيات، إكراهات الواقع، موازين القوى، الخوف من اليسار الاستئصالي، قوة الثورة المضادة وارتباطها بقوى إقليمية خليجية وغيرها الخ)، ولكنّ ذلك كله لا يمنع التونسيين من طرح السؤال التالي: ماذا ربحت البلاد اقتصاديا واجتماعيا (بل وحتى ثقافيا) من هذا الخيار النهضوي الذي حوّل الحركة إلى جزء من منظومة الحكم، دون أن يُغيّر شيئا من آليات اشتغالها ودون أن يُعدّل شيئا في خياراتها الكبرى الموروثة من زمن المخلوع؟
2. الحق في نقد النهضة بناء على سياساتها وليس انطلاقا من أي تعاطف مع مظلوميتها أو مع مرجعيتها، أي الحق في التعامل السياسي معها دون أي تفضيل لها عن بقية مكونات منظومة الحكم. فاعتراف القوى الحداثية بالنهضة شريكا في الحقل السياسي (بل في إعادة هندسة الفضاء المجتمعي برمته) لا يعني أن من واجب تلك القوى أن تتماهى مع أطروحات النهضة أو أن تمتنع عن نقدها، سواء أكان النقد موجها لخياراتها “الهووية” أو الاقتصادية والاجتماعية. فمن حق تلك القوى أن تظهر تمايزها عن حركة النهضة، بل من حقها أيضا أن تتوجه إلى قواعد النهضة ذاتها وأن تعتبرهم جزءا من قاعدتها الانتخابية الممكنة. فخوف النهضويين من “اختراق” قاعدتهم الانتخابية أو تغيير نوايا التصويت بين أفرادها، قد يبلغ أحيانا درجة تخدم أولئك الاستئصاليين القائلين بأن النهضة “طائفة مغلقة”، وليست حزبا سياسيا كباقي الأحزاب.
3. المسألة الدينية وحق التونسيين “كلهم” في التعبير عن آرائهم فيها دون الخوف من التكفير والتفسيق أو الوسم بـ”رقّة الديانة” من جهة أولى، ودون الخوف من التخوين والشيطنة والاستهداف الأمني من جهة أخرى. فالخطاب الفقهي التقليدي ليس مرجعا أعلى للجميع، بل هو مرجع من جملة مراجع أخرى يجب إدارة حوار جدي بينها للوصول إلى توافقات مجتمعية حقيقية، لا توافقات سلطوية أو نحبوية مُسقطة. كما أنّ الخطاب اللائكي ليس مرجعا أعلى للحداثة، ولا لكيفيات إدارة العلاقة بين الديني والسياسي. فعلى النهضويين (بعد أن قبلوا بمنطق الشراكة مع باقي القوى اللائكية) أن يتجاوزوا وعي “المسلم الحزين” أو الوعي الانفصامي الذي يعيش “القانون” باعتباره اغترابا عن الشريعة وليس قراءة ممكنة لها، وعليهم أيضا بعد أن ارتضوا التحرك داخل فضاء الدولة-الأمة (الدولة الوطنية) أن ينظروا إلى ما يُجمع عليه التونسيون على أنه إجماع “شرعي” مهما خالف المدونة الفقهية التقليدية. فعدم الاعتراف بهذه “الشرعنة” لن يفعل غير إذكاء المخاوف التي تتحدث عن “تكتيك” نهضوي لا يعترف بالسائد التشريعي والقيمي إلا انتظارا للحظة “التمكين”.
ختاما، فإن بين من يطالب النهضة بالعودة إلى أفق الحراك الثوري ومراجعة خياراتها وتحالفاتها واستراتيجياتها داخل منظومة الحكم، وبين من يتعامل مع النهضويين بوصفهم “فاصلة مؤقتة” في منظومة الحكم، رغم كل توافقاتها وتنازلاتها التي لم ينتفع منها أساسا إلا مراكز القوى داخل المنظومة القديمة، توجد الكثير من مواضع التلفّظ النقدي “الشرعية” والقادرة على تحريك المياه الآسنة الغالبة على الحقل السياسي التونسي. وهي مواضع قد يكون من الخطأ الفادح ألاّ يعمل النهضويون على الإنصات إليها ومحاورتها، بل لا يمنعهم حتى من التفكير في جعلهم بديلا عن ورثة التجمع وشقوقهم المتناحرة. ولكنّ هذا الإنصات النهضوي للنقد لا يعني، من جهة أولى، أن تصبح الحركة مجرد مسخ قد يعجب سدنة الحداثة المأزومة بدعوى نجاحها في “التَّونسة” التي لا تعني عندهم غير تكريس حالة التخلف والتبعية والاغتراب، كما أن هذا الإنصات النهضوي لاحترازات القوى الحداثية يحتاج، من جهة ثانية، إلى إنصات مقابل، ومراجعات مماثلة من جهة القوى “الحداثية”.. مراجعات تتصل خاصة بالعقل السياسي اللائكي وبالهوية الجماعية وباستحقاقات الثورة، وبدورهم في المنظومة الحاكمة (ومن يكفلها من القوى الخارجية) قبل الثورة التونسية وبعدها.