كان الانتصار الأخير لغزة -على رغم تكلفته- واحدا من سلسلة متعاقبة من الانتصارات التي استطاعت غزة أن تدحض بها نظريتين بدتا مستقرتين، وهما نظرية الأمن الإسرائيلي ونظرية محور بن سلمان والثورة المضادة في الوفاق المشبوه على حساب الفلسطينيين.
وإذا أردنا أن ننظر إلى الحقيقة الجوهرية في هذا الانتصار؛ فإننا لا بد أن نصارح أنفسنا بما آلت إليه القضية الفلسطينية على أيدي الزعامات العربية، بما فيها زعامة منظمة التحرير الفلسطينية وكبرى فصائلها حركة فتح، والتاريخ المتعاقب والمتراكب الذي أدى إلى هذا المآل.
أولى هذه الحقائق هي أن الخطاب العربي -وفي مقدمته الخطاب الناصري- كان قد تغير بنعومة ودون تنبيه بعد هزيمة 1967، ليصبح المحور البارز فيه هو “إزالة آثار العدوان الإسرائيلي” ويقصد بذلك هزيمة 1967.
وكان هذا التحول يعني ببساطة شديدة (تجاهلها العرب ولا يزالون يتجاهلونها) أن النظام الناصري أخلى مسؤوليته من قضية فلسطين، حتى ولو بقيت في قلوب الشعوب العربية وعلى ألسنتها ولسان النظام الناصري. وكان الحل التلفيقي الذي يطرحه متحدثو الناصرية-أو مُفكروها أو قادتها- هو أن إزالة آثار العدوان هي الخطوة الأولى نحو تحرير فلسطين، وأن التحرير هو الخطوة التالية.
لكن حقيقة الأمر هي أن التوافق المريب الذي قبِل به الرئيس جمال عبد الناصر كان يستهدف الإجهاز على القضية الفلسطينية، وقد اشترك السعوديون في هذا التوافق، بل ربما كان هذا هو التوافق الوحيد الذي تم بين عبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز إثر عودة العلاقات بينهما إلى نوع من أنواع الصلح بعد قتال أو الود بعد خصام؛ وهو ما تتوج في مؤتمر الخرطوم (أغسطس/آب 1967).
وقد صرح عبد الناصر نفسه لوزرائه -في اجتماعات اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي (محاضرها مسجلة وقد نشرت بعد ثلث قرن في عهد الرئيس حسني مبارك)- بأن الدعم الذي تقدمه السعودية والكويت وليبيا لمصر والأردن (135 مليون جنيه إسترليني ثلثاها لمصر وثلث للأردن بينما رفضت سورياقبول مبدأ الدعم) يُمثل بديلا عمليا لفكرة ثورية طالما نادى بها الثوريون (ولا تزال تنادي بها الجماهير العربية)، وهي فكرة قطع إمدادات النفط العربي عن الغرب.
وجاء القبول بهذه الفكرة العملية انطلاقا من المنطق القائل بأن العرب أنفسهم يحتاجون ثمن البترول لتسليح جيوشهم من أجل القضية، وهو ما كان يُشير -بكل وضوح- إلى ثلاثة من المعاني المهمة التي استطاع عبد الناصر أن ينقلها لوزرائه، ولغيرهم من التنفيذيين العرب في كل دولة اتصلت أواصرها أو حماستها بالصراع العربي الإسرائيلي:
• المعنى الأول هو أن الدول البترولية الثرية تشارك بهذا الدعم في تحمل مسؤوليتها القومية، ومن ثم فلا مبرر لانتقادها أو لمواصلة الحملات المعلنة عن ضرورة تثوير شعوبها على حكامها.
• المعنى الثاني هو أن هذا الدعم يتطلب حماية خطوط البترول ومنابعه من حماسة الشبان العرب الذين قد تدفعهم حماستهم إلى تدمير خطوط البترول أو تفجير منابعه، وذلك على نحو ما حدث في 1956 وكان بمثابة إضافة نوعية استفاد منها عبد الناصر نفسه وثمّنها وقدّر من قاموا بها.
أما الآن -وفي ظل هذه الهزيمة الساحقة- فإنه لا مجال على الإطلاق لأي “تصرف ثوري” من هذه التصرفات الحماسية الثورية، التي تحولت طبيعتها عنده لتكون أولى بوصف “التهور” بدلا من “التحمس”، وبوصف “إرهاب” بدلا من “جهاد”.
• المعنى الثالث هو أن معركة المواجهة مع العدو الإسرائيلي من أجل التحرير أصبحت خاضعة لأعراف الدول الكبرى ومعاييرها، وليس لعقيدة العروبة ولا لمشاعر الجماهير ولا لتضحياتها.
ارتبطت بهذه المعاني الثلاثة نتائج عملية واضحة جعلت الأمل في زيادة الدعم العربي عن هذا الحد معدوما، وجعلت الحفاظ على سلامة منابع النفط واستمرار تدفقه بمثابة قضية جوهرية لا تحتمل مراهنة ولا مناقشة، لكن الأهم والأخطر كان مبدأ وأد العمل الفدائي.
وكانت الصورة المطلوبة من الدول العربية هي أن تلتزم سوريا والأردن ولبنان بما التزمت به مصر عبد الناصر في 1957 (ومن قبل في 1954)، وهو ألا تكون أراضيها قاعدة للهجوم على إسرائيل.
وكانت هذه الحقيقة -التي غيبتها الزعامة العربية عن شعوبها وعن إعلامها- هي السبب الرئيسي فيما أصاب القضية الفلسطينية منذ ذلك الحين من إحباطات وتقلصات وانتكاسات على أيدي العرب، وبمشاركة “مضطرة” من بعض قيادات الفلسطينيين في تلك المنظمات.
والشاهد أن أحدا لم يسأل نفسه عن السبب الذي جعل المقاومة الفلسطينية تمارس جهادها من الأردن وسوريا ولا تمارسه من الدولة الأم؟ ولم يكن أحد يعرف أن انتصار عبد الناصر 1954 في صراعه مع محمد نجيب والقوى السياسية -وعلى رأسها حزب الوفد والإخوان المسلمون وشباب الشيوعيين- لم يتم حسمه لصالح عبد الناصر بذكائه ولا بقدرته، وإنما بموافقته الصريحة (وإن كانت غير مُعلنة ولا معروفة) على حماية إسرائيل من الهجمات الفدائية من سيناء عبر غزة وغير غزة.
بل وبموافقته الصريحة على السماح للسفن الإسرائيلية بالعبور إلى إسرائيل، مع حفظ ماء الوجه بعدم رفعها للعلم الإسرائيلي أثناء عبورها الذي كانت ممنوعة منه منذ عهد مصطفى النحاس باشا، حين وظفت حكومة الوفد مُلكية مصر لجزيرتيْ تيران وصنافير في قطع الإمدادات كلية عن الكيان الصهيوني الذي نشأ عام 1948. ولا يزال كثير منا يجهل هذه الحقيقة.
كانت النتيجة الإستراتيجية الأولى للانتصار الإسرائيلي في 1967 هي أن يعود عبد الناصر إلى ما كان قد التزم به من قبل في 1954 وضاعفه في 1957 (عند إعادة سيناء مع سماحه الرسمي وليس الودي بمرور السفن الإسرائيلية)، وحاول أن يُلغيه بقراره في 15 مايو/أيار 1967 بإغلاق المضايق؛ وهو القرار الذي وظفته إسرائيل مبررا لشنها الحرب في 5 يونيو/حزيران وتحقيق ما حققته بهذه الحرب.
كان المطلوب من عبد الناصر أن يعود لتذكير نفسه بالتزاميْه السابقين بحماية إسرائيل من هجمات الفدائيين أو المجاهدين عبر الأراضي العربية، ولم يكن في وسعه أن يمانع؛ ولهذا كان موقف عبد الناصر في الأسبوع الأخير من حياته تتويجا لهذا الالتزام، وكان شعاره المرفوع يومها صريحا وهو احترام سيادة الدولة الأردنية، والحفاظ على أرواح الفدائيين الفلسطينيين.
وهو شعار سهل الترجمة على أرض الواقع بما حدث فعلا من إخراج الفدائيين الفلسطينيين من ساحة المعركة في الأردن، وهو ما يعني ببساطة تقليص مساحة العمل الموجه من أجل تحرير فلسطين.
ومن العجيب أن العمل الأميركي الدائب استغل الموقف نفسه في غفلة من العرب وانشغال منهم بتشييع جنازة عبد الناصر، لتتم أهم خطوة وهي تحييد الجهة الأكثر ثورية في سوريا.
فبدلا من أن تتم خطوات محاكمة وزير الدفاع الذي لم ينفذ أوامر الدولة والرئيس السوري بالمسارعة إلى إنقاذ ودعم الفدائيين الفلسطينيين، الذين يعانون من مذبحة أيلول الأسود في الأردن؛ فإن هذا الوزير -وهو حافظ الأسدنفسه- استغل الموقف فأنجز آخر الانقلابات العسكرية السورية وأهمها وأبقاها، ونجح في أن يسمي هذا الانقلاب باسم الحركة التصحيحية.
جاء الأسد بصديق له ليجعله بمثابة رئيس الجمهورية ريثما يمرر انقلابه أو حركته التصحيحية، وليلقي بزعامة سوريا الثلاثية (نور الدين الأتاسي ويوسف زعيّن وإبراهيم ماخوس) في غيابة السجن والنفي لعقود من الزمن.
وهنا تبدأ مرحلة من العمل الفدائي الفلسطيني الذي لم يخلُ يوما من الأيام من الجدية، لكنه أصبح يمارَس من خلال “كفيل ذكي ومراوغ” هو حافظ الأسد، أكثر العسكريين العرب خبثا وباطنية ودهاء، وقدرة على التحالفات المرحلية الموظَّفة لمصلحته قصيرة النظر.
وقد يدهش القراء اليوم حين أروي لهم أن الرئيس أنور السادات -في تخطيطه لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973- كان قد خصص مواقع في جبهة القتال ليشارك من خلالها الفلسطينيون في المعركة، وذلك لتستكمل المعركة طابعها القومي بمشاركة قوات عربية من دول عديدة فيها.
لكن الفلسطينيين -الذين عُرفوا دوما وعن حق بالثورية والحماسة- عانوا في ذلك الوقت من زعاماتهم التي كانت قد بدأت تتكلس بدرجة خفيفة، جعلتها لا تُسرع لتلبية دعوة السادات إلى الوجود على الأرض التي دارت فيها المعركة. ولما جاءت هذه القوات الفلسطينية -بعد بدء المعركة بأيام- كانت تشعر عن حق بأن حساباتها العربية بدأت تؤثر في صواب قرارها وتوقيت هذا القرار.
وقد ظلت هذه الحسابات -التي يُجريها القادة الفلسطينيون المتصلون بالقيادات العربية- تؤذي قضيتهم حتى جاء أحمد ياسين وخلفاؤه، ليستعيدوا زمام قضيتهم في أيديهم مهما كانت التكلفة. وكانت الحقيقة الجلية هي أنهم بدؤوا ينتصرون ويعرفون أنه لن يضرهم من يخذلهم.
ومنذ ذلك الحين؛ بدأ تعبيري عن ثقتي المتواصلة بقدرة الفلسطينيين على الانتصار، وهو ما عبرت عنه في كتابي الذي صدر نهاية 2002 بعنوان “الفلسطينيون ينتصرون أخيرا”.
وكان جوهر ما ناديت به وآمنت به هو أن الخلاص من عبء الارتباطات العربية المتنوعة والمتضاربة كفيل بأن يحوّل كل جهاد صادق إلى نصر مؤزَّر، وهو ما حدث فعلا في انتصارات متعاقبة على مدى ما مضى من سنوات العقدين الأخيرين اللذين هما أول عقود الألفية الثالثة.
الجزيرة