عن المجهول ما بعد الحداثي: لا مركزية أم تشظي ؟

إحسان علواني
“الإنسان مدني بالطبع”، هكذا تكلم إبن خلدون. والحقيقة أن هذا المبدأ وإن كان أصله ثابتاً في علم الاجتماع، فإن صورته وتمثله في الواقع لم يكن ثابتاً في الزمان والمكان، بل إتخذ أشكالاً مختلفة على مر العصور.
ذلك أن المجتمعات الإنسانية عاشت لقرون طويلة في شكل تجمعات بشرية صغيرة لا تتعدى المائة والخمسين فرداً. وهذا الرقم ليس إعتباطياً، إنما هو يمثل العدد الأقصى النظري للأفراد الممكن التواصل معهم بفاعلية، وهو ما يطلق عليه بـ”عدد دانبار” (Dunbar’s Number) نسبة لعالم الانطربلوجيا البريطاني “روبن دانبار”. وبهذه الصورة، كانت البشرية منتظمةً محلياً بنسق لا مركزي، بسلطة محلية عائلية تنظم العلاقات بين أفرادها. وعلاوةً على ما يمثله “عدد دانبار” من حدٍ تواصلي معرفي وبيولوجي، فإن التجمعات صغيرة الحجم هي أيضاً ضرورة إقتصادية. إذ بكثرة العدد، يصعب على التجمع/القبيلة توفير ما يلزم من طعام وشراب لكل أفرادها. وقد بدأ تغير هذه الصورة في التنظم مع إكتشاف الزراعة. إذ صار من الممكن -بل من الضروري- أن يعيش عدد أكثر من الناس في نفس المكان حيث تحتاجهم المجموعة لفلاحة الأرض وإنتاج محاصيلها على مر السنة. وهذا التحول يكفل للفرد الطعام والشراب دون الحاجة إلى تواصل مباشر مع بقية الأفراد جميعهم. ولكن هذا الواقع حتم إيجاد سلطة مركزية تفصل بين نزاعات الأفراد وتنظم حياة الناس لتعويض الفراغ الحاصل في سطوة العلاقات المباشرة بين الجميع. امتد هذا التوجه في تنظم البشر مع الإمبراطوريات ثم مع ظهور الدولة الأمة، ثم مع التكتلات الفدرالية والكونفدرالية وغيرها من أشكال السلطة المركزية.
هذا الشكل المركزي من التنظم الاجتماعي والسياسي أنتج بالتناسق معه مركزية اقتصادية ونقدية وطبعاً قانونية. وهذه المركزية ثابتة أياً كانت أيديولوجية الدولة ليبرالية كانت أو شيوعية، ديمقراطية أو دكتاتورية، علمانية أو دينية. إذ حتى وإن لم تكن الدولة هي مركز السوق كما في الدول الرأسمالية، فهذا لا ينفي مركزية السوق حول رؤوس الأموال الكبرى، ومركزية نظام النقد حول البنوك… إلخ. وهذه المركزية حاضرة طبعاً في في التجارب الشيوعية حيث تكون سلطة السوق والنقد والسياسة في يد الحزب/الدولة/النظام.
ورغم تواصل هذا الشكل منذ قرون إلى اليوم كخيار أوحد للتنظم السياسي وكقاسم مشترك لجميع آليات إدارة الحياة العامة للمجتمعات، فإن إرهاصات ضعف المركزية وإشارات بداية اللامركزية قد بدأت منذ بداية القرن العشرين مع منذ إختراع الطباعة، والصحافة المكتوبة. ذلك أن السيطرة على الأفكار ومركزية البناء الفكري والمعرفي بدأ يتلاشى مع إمكانية نشر أفكار وجدليات وأخبار لم توافق السلطة المركزية بالضرورة عليها مسبقاً. وبظهور الانترنت فقد تسارع هذا التوجه حتى وصلنا إلى زمن المعلومة المشاع، وإتاحة التواصل المباشر بين الأفراد دون المرور بأي سلطة مركزية، على الأقل فيما يبدو (يمكن هنا مناقشة سلطة شركات الـ-GAFA، لكنه يحتاج إلى افراد مقال لبحثه).
لم تتوقف هذه النزعة عند شيوع المعلومة، بل شملت أيضاً لامركزية المنظومة النقدية (العملة/الفلوس). فتحت تكنولوجيا البلوكتشاين (Blockchain) وخاصة العملات التشفيرية (Cryptocurrencies) نافذة على المخيال التشاركي، وحتى اللاسلطوي إلى حد بعيد. ذلك أن هذه التكنولوجيا تتيح المبادلات النقدية المُؤَمَّنة بين أفراد مجهولي الهوية دون الحاجة للثقة فيما بينهم ولا الثقة في بنك مركزي أو دولة. وهو ما يعني عمليا لامركزية نقدية شبه مطلقة مفتوحة على تجربة مجهولة للإنسانية حتى الآن.
اللَّارُكود السياسي: أجسامٌ صلبة، في عالم سائل:
في الحياة السياسية اليومية، تنتج السيولة التي نعيشها أزمات مستعصية على النمذجة والفهم بأدوات التحليل الكلاسيكية. وحتى أشكال الممارسة الحزبية أصبحت غير متماشية مع الواقع السائل، ويبدو أنها لن تصمد طويلاً كأدوات تأطير للجماهير أمام موجات اللامركزية العارمة.
إذ لابد لكل تنظيم سياسي من شكل من أشكال احترام تراتبية الهياكل. لكن مع سيولة المعلومة وشيوع منصات التواصل، فان نمط الممارسة العمودي هو نمط ينتج تفلتا في القواعد والقيادات الوسطى على حد سواء. فبينما يتوقف دور القواعد في المنظمات الكلاسيكية على تلقي الأوامر وتنفيذ السياسات التي تحددها الهياكل المركزية فإن أجيال التواصل الاجتماعي تتمتع بمنابر يتمكن الفرد فيها من التعبير عن وجهة نظر التي قد تكون في تناقض مباشر مع رؤية الحزب. كما مكنت هذه المنصات الافتراضية القواعد من الاحتكاك بأصحاب رؤًى مختلفه عنهم والخروج من الدائرة المنسجمة فكرياً وسياسياً داخل منظماتهم وأحزابهم وأنساقهم المغلقة إلى مجال أوسع وأرحب وأقل تجانساً.
ولمواكبة هذا التغير الجوهري في الواقع المعيش، يبدو من الضروري إحداث تغييرات هيكلية وجوهرية على نمط الممارسة السياسية للأحزاب ونمط إدارة الدولة وممارسة السلطة. ويكون ذلك بهامشٍ عالٍ من الأفقية التي تتماشى مع سيولة المعلومة، وتتيح إنتقالاً سريعاً للأفكار بين مختلف التراتبيات ما يوحي بأن جدار الهرمية شفاف غير حائل، ورقيق غير صلب.
أما الأجسام التي مازالت تسعى جاهدةً للحفاظ على الصلابة التنظيمية لماكيناتها دون تكليف نفسها عناء فهم المتغيرات السريعة، فإنها مهددةٌ في وجودها وتواصلها وسط عالمٍ يموج بالتغيرات المنفلتة.
ومن جهة أخرى فإن أي تنظيم معني بالشأن العام ليس فيه هيكل خاص معني بالاستشراف السريع والدائم والتماشي مع التسارع المفزع للتغيرات هو مهددٌ بالغرق في سيولة الحياة الحديثة.
الرأي العام – التونسية

Exit mobile version