دماؤهم لن تذهب هباء
فتحي الشوك
لم تكفكف الدّموع بعد ولم تجفّ الدّماء، ومازالت الأنفس المكلومة تئنّ ألما ووجعا وتضجّ لوعة وتلهج بالدّعاء. هم تسعة، كانوا ذبائح لحفلة، لأجلهم نظّفت الغرفة، أشعل البخور واكتمل الحضور: شيخ معمّم ورجل قانون وعشماوي بلا رحمة، لتعزف الجوقة وتتمّ الزفّة.
هم تسعة، دفعة على الحساب وليسوا تمام الحسبة، التحقوا بآخرين وآخرون قد يلتحقون بهم في أيّة لحظة.
هي حلقة في مسلسل الدمّ والقهر والظّلم وسط إعجاب وتصفيق البعض وصمت البعض وعالم منافق مات فيه الضّمير والنّخوة.
إلى متى تستمرّ المأساة وهل نحن في أوّل أو في نهاية الحلقات وهل هناك بوادر أمل لانفراج أو صحوة؟
بداية النّهاية أم نهاية البداية؟
ارتكب السّيسي المجرم سلسلة من المجازر أبرزها، رمسيس، النّهضة، عربة الترحيلات ورابعة الكبرى، ذهب ضحيتها الآلاف، احترقت الجثث وفاحت رائحتها في الأجواء ليسدّ الجميع الأنوف ويصمّوا الأذان ويغمضوا العيون، بل وليتدفّق المال بلا حساب تماما كفتاوى القتل والنّحر وليغضّ الطّرف عن أفظع جرائم تشهدها مصر وكأنّ من يقتلون هم حشرات أو ذباب وليستمرّ القمع ويشتدّ ليطال كلّ معارض للانقلاب أو حتّى مساند قد استفاق ضميره فابتدأ بتوجيه النّقد وبعض العتاب.
غبيّ من يعتقد أنّ السّيسي أحمق، هو أدهى ممّا نتصوّر ويعلم جيّدا ماذا يفعل، فهو العميل المزروع بدراية كان يصنع على أعينهم ليكلّف بمهمّة تهميش مصر وتدميرها وإخراجها من التّاريخ وحتّى الجغرافيا.
السّيسي لا تهمّه انتخابات أو قانون أو دستور أو استفتاء فهو يعتقد واهما أنّه مدعوم من السّماء، هو أعظم من أن يكون رئيسا بل قل ملهما، منقذا أو زعيم الزّعماء، فيه بعض من فرعون والنّمرود وما على الرّعية إلاّ الطّاعة العمياء، الخنوع والسّجود، فكيف لبعضهم أن يأبوا ذلك ويظهروا مقاومة أو صمود؟
السّيسي يعتقد في نفسه إلها في زمن انتشرت فيه الآلهة في كلّ مكان واستعادت دورها كما في عهد الإغريق أو الرّومان أو في الجاهلية الأولى، ومشكلته بالأساس ليست مع العبيد بل في بعض الضّالين ممّن استحبّوا الكفر على الإيمان.
السّيسي له معبد، كهنة وسحرة وجنود كثر وعتبات مقدّسة تتطلّب أضاحي من حين لآخر وفي الغالب شروط الأضحية تتطلّب أن تكون الأحسن والأطهر والأجمل والأسلم، أفتى في ذلك مجمع الكهنوت المقدّس، من بابا الإسكندرية إلى شيخ الأزهر، إلى صوفية الدّجل، إلى سلفيّة النّهي عن المعروف والأمر بالمنكر مرورا بعلمانيّة المرقص والعسكر.
أضحيّة في شكل إنسان نزعوا عنه الصّفة ليلبسوه ثوب خروف، هكذا عملوا منذ مدّة في مختبراتهم فالذّبيح ليس إلاّ خروف، والغريب أن يلصقوا بهذه المعرّة المقصودة صفة الخطورة والإرهاب ليصبح مستهدفا وتنصب له الشّراك وقد يختطف ليلبسوه الثوب الأحمر حين الحاجة لحفل شواء وتطبيقا لطقوس المحفل.
استسهل السّيسي طريق الدّم وذاق طعمه ليدمن عليه كمصّاصي الدّماء ومن غير المحتمل أن يقلع عن ذلك وما نشهده هي مقّدمة وبعض المفتّحات في انتظار ما هو آت، والخاتمة الّتي لا تلوح في الأفق هي محسومة بطبيعة البداية، غرق في وحل الدم.
عالم منافق:
يتشدّق البعض بحديث منمّق جميل عن حقوق الإنسان الكونية ليبتلعوا ألسنتهم ويصابوا بعمى الألوان حينما تتعلّق الانتهاكات وتمسّ من يخالفهم في الرّأي في ممارسة لانتقائية مقيتة وتجلّ لعوارض انفصام عميق.
فالغرب المهيمن المنافق، المتمحور حول ذاته لا يهمّه في النّهاية إلاّ مصالحه وحقوق “إنسانه” وهو من لم تحرّكه انتهاكات لم تشهدها مصر في مختلف العصور لا يمكن أن تستفزّه بعض الإعدامات باسم “القانون”.
فمباشرة بعد زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون أعدم السّيسي ستّة، وإثر عودته من مؤتمر ميونيخ ألحق بهم تسعة وخمسون آخرون ينتظرون التنفيذ في أيّة لحظة، قد تكون بعد زيارة أكثر من عشرين زعيما أوربّيا في الرّابع والعشرين من هذا الشهر بمناسبة القمّة العربيّة الأوربّية بشرم الشّيخ.
السّيسي خبر نفاق المركزية الغربية المتضخّمة وقدر أن يكسب تأييدها بترهيبها بالأسوأ فهو يقدّم نفسه كمحارب للإرهاب هو في الحقيقة صانعه ويستمدّ منه مبرّره الوجودي ويروّج لشخصه على أنّه صمّام أمان لوضع قد ينفجر ويخرج عن السّيطرة إلى جانب كونه خادما أمينا لمصالح الغرب و”الصّديقة إسرائيل” وهو ما يكفل له أن يتغاضى الجميع عن إجرامه في حقّ شعبه.
أمّا عن التّمويل فالمال كثير ولا خوف من الفقر بفضل العربان المرتعشين فوق عروشهم المتطاولين في البنيان.
نجح السّيسي في أن يدجّن الشعب المصري، المقسّم، المفقّر، المغيّب وربّما صارت هواجسه تقتصر على العسكر لذلك أغرقه في إرهاب مصطنع ومصانع الكعك بلا سكّر.
ومن المسلّمات أنّ من مثله لن يرحل بالصندوق بل في صندوق، ذاك أقرب.
ردّ الفعل العالمي تجاه إجرام السّيسي كان محتشما، باهتا ولا يكاد يذكر، فباستثناء ما أتى على لسان المتحدّث باسم حقوق الإنسان في الأمم المتّحدة روبيرت كولفيل الّذي أشار إلى غياب المحاكمة العادلة واستخدام التعذيب وانتزاع اعترافات بالإكراه وبعض التحرّكات الشعبية وموجة من التعاطف على صفحات التّواصل الاجتماعي فإنّ الصّمت الرّسمي كان المهيمن والأفظع لأنّ البعض هنا وهناك كان يلمّع ويبرّر.
فماذا لو تخيّلنا المشهد؟ كيف يساق تسعة بعضهم اختطف لتنتزع أرواحهم بعد أن انتزعت اعترافاتهم؟ بين الإعدام والإعدام نصف ساعة: صرير وارتطام وصراخ وهلع حتّى إنّ أحدهم لهول المشهد مات قبل دخوله حجرة الإعدام.
تعجز الكلمات عن الوصف وينتحر الكلام.
ستلعنهم ليلى في كلّ ليلة احتاجت فيها عطف أب لم تعرفه غيّبوه ظلما ذات مساء، وستلعنهم أمّ محمود الثّكلى المحترقة كبدها على ابن كان متفوّقا وأمنيته أن يحرز على جائزة نوبل في الفيزياء، وستطاردهم دعوات أمّ أحمد الّذي أشهد الله أنّه لا يعرف من اتّهم بقتله ولم ينسه جلل ما هو فيه تذكّره أصدقائه راجيا منهم أن لا ينسوه في الدّعاء… وأبو القاسم ومحمّد وصلاح وكثير من الأسماء وكثير ممّا لا نعرف لهم أسماء.. قائمة طويلة من الأبرياء والشهداء.
ستطارد أطيافهم المجرمين الجناة، ممّن قرّر وأفتى ونفّذ وشجّع وصفّق وأيّد وموّل وبرّر، ستلاحقهم آهات المكلومين ودعوات المستضعفين فيقينا دماؤهم لن تذهب هباء.