بن سلمان.. بين سيزيف وبلال
فتحي الشوك
كان تصرّفا أرعن يقطر عنجهية واستعلاء واستهانة وتدنيس لمشترك مقدّس وتهوّرا ينمّ عن الكثير من الحماقة والغباء، لا شيء يفسّر تلك الشّطحة الأخيرة لوليّ العهد السّعودي محمّد بن سلمان، على ركح أطهر بقعة على سطح الأرض، سوى عوارض لمرض نفسي قد تمكّن منه واستفحل. دخل بيت اللّه وكأنّه بيته محوّلا إياه إلى ثكنة عسكرية ليعتلي سطح الكعبة في تصرّف لم يسبقه إليه أحد من آل سعود، ليخرج إلينا أحد شيوخ السّلاطين مفتيا بجواز ذلك مستشهدا ببلال مؤذّن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، استدلال جعلني استحضر رائعة الدكتور أحمد خيري عمري “شفرة بلال” الّتي فكّك فيها مدلولات صخرته في مقارنة لصخرة أخرى هي لسيزيف. فأيّ الصّخرتين هي أقرب في حالة بن سلمان؟
صخرة سيزيف
تقول الميثولوجيا الإغريقية أنّ سيزيف كان تاجرا مخادعا، جشعا، ماكرا، لا يراعي عرفا ولا يجد حرجا في انتهاك عرض أو إفشاء سرّ أو خيانة أمانة إلى حدّ وصمه بأنّه الأكثر لؤما، فهو أغوى ابنة أخيه واغتصب عرش أخيه وأفشى أسرار زيوس وتمكّن من خداع آلهة الموت ثاناتوس واستمرّ في إفساده إلى أن تمكّن منه زيوس ليسلّط عليه عقابا أبديّا يتمثّل في أن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا ما وصل القمّة تدحرجت نحو القاع فيعود إلى رفعها من جديد إلى القمّة ويظلّ هكذا إلى ما لا نهاية.
صخرة بلال كانت سببا لتحرّره وانعتاقه، إخلاصه كان سرّ خلاصه، توحيده وتوجّهه الصّادق أنقذه ممّا هو فيه حينما خيّم اليأس وسدّت الأبواب. استمسك بالحقّ ليتحوّل إلى مؤذّن معتمد يصدع بالحقّ
وصارت الأسطورة عنوانا للأنشطة العقيمة عديمة الهدف والفائدة، حركة في الاتّجاه الخاطئ بلا جدوى واستخدام للوسائل ذاتها الّتي تؤدّي إلى السّقوط في تكرار لتجربة محسومة نتيجتها بالفشل. يقول ألبير كامو: “ليس هناك أفظع من عمل متعب لا أمل فيه ولا طائل منه” (مقال: أسطورة سيزيف 1942). وقد استطاع الدكتور أحمد خيري عمري من خلال روايته “شفرة بلال” أن يختزل صخرة سيزيف في المشاكل الّتي تعترضنا والعراقيل الّتي تواجهنا ومختلف الضّغوطات الّتي تمارس علينا، ليكون تعاملنا في الغالب ضمن الطّرح السّيزيفي متناسين بأنّه بإمكاننا أن نحوّل تلك الصخرة إلى شبيهة بالّتي كان يرزخ تحتها بلال والّتي كانت سببا في تحرّره ونقلته إلى أسمى المراتب.
صخرة بلال
كان بلال ابن رباح الحبشي رضي الله عنه، عبدا لأميّة ابن خلف، وهو من أوائل من اعتنقوا الإسلام ليكتشف ذلك سيّده فيمارس عليه أشدّ صنوف العذاب عساه يرتدّ ويعود إلى دين الآباء والأجداد. كان أميّة يخرج به في عزّ قيظ الظّهيرة ليطرحه على ظهره في بطحاء مكّة لتوضع صخرة عظيمة على صدره، ليكتفي بلال بتلك العبارات الخالدة: “ربّي الله أحد أحد”، واستمرّ صامدا، ثابتا إلى أن خلّصه من عذابه سيّدنا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بأن اشتراه ليعتقه لوجه الله.
شهد الصّحابي الجليل مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم جميع المواقف وقد اتّخذه مؤذّنا وفي يوم فتح مكّة أمره بأن يعتلي الكعبة ليؤذّن فوقها ففعل. اعتزل الأذان بعد وفاة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ولشدّة محبّته له كان يردّد حينما حضرته الموت: “غدا نلقى الأحبّة محمّدا وحزبه”.
تحدّي بن سلمان السّيزيفي
في جرد سريع لتصرّفات ومواقف وليّ العهد السّعودي بن سلمان منذ سطوع نجمه تتمثّل كلّ صفات الرّعونة والعنجهية والتصلّف والاستعلاء، وتتجلّى عوارض مرضيّة لجنون عظمة متلبّسة بالحماقة والغباء لترسم صورة كاريكاتورية لطاغية سايكوباتي يمثّل خطرا على نفسه وعلى محيطه. فمن تورّط في حرب عبثية في اليمن حوّلته إلى موطن لأكبر كارثة إنسانية في التاريخ الحديث، إلى حصار قطر، إلى احتجاز الحريري، إلى اعتقال النّاشطين والنّاشطات وتعذيبهم، إلى تقطيع جثّة الصحفي جمال خاشقجي، إلى استعداء الشعوب ومساندة الطّغاة، إلى هدر المقدّرات، إلى تسييس للحجّ وتدنيس المقدّسات. ويبدو أنّه لا يحسن سوى مراكمة الفشل وارتكاب الحماقات.
يُذكر أنّ الوليد ابن عبد الملك ابن مروان، السكّير العربيد الطّائش، فكّر ذات مرّة في أن يعتلي سطح الكعبة فوجد من ينصحه ويصدّه ليتراجع عن فعلته، بيد أنّ بن سلمان لم يجد من يرشده أو ينصحه بعد أن زجّ بكلّ النّاصحين الصّادقين في غياهب السّجون ليترك المتعالمين المتملّقين المطبّلين يصولون ويجولون ويزيّنون له فعله وإن حاد عن الحقّ أو خرج عن النّص. فهذا أحد شيوخهم صالح المغامسي ينغمس بالكلّية في إيجاد مخارج فقهية لوليّ الأمر وتبرير ما لا يبرّر ومقارنة ما لا يقارن. أجاز لبن سلمان إمكانية الصّعود على سطح الكعبة مستدلّا ببلال. فإذا كان بلال قد تلقّى إذنا من الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لأجل الّصّدح بكلمة الحقّ فمن أين تلقّى بن سلمان إذنه؟
أتراها هلوسات مرضية من نفس متضخّمة متمركزة حول ذاتها، أرادت أن تثبت بأنّها المركز وفي الأعلى وأنّ الجميع يطوفون حولها في انتهاك لحرمة مقدّس مشترك يخصّ عموم المسلمين؟ أم ممارسة طقوسيّة نصحه بها أحد أحبار اليهود أو أحد المنجّمين كشرط لاعتلاء العرش؟ ثمّ ما هي الرّسالة الّتي أراد أن يوصلها بن سلمان بفعلته تلك؟
أخدمة الحرمين والحرص الشّديد على الاعتناء بالكعبة وصيانتها؟ وكان بإمكانه أن يعتلي أحد الأبراج المحيطة الّتي غطّت الكعبة وقزّمتها وأفقدتها هيبتها وبريقها وحوّلت أمّ القرى إلى مدينة لا تختلف عن دبي أو لاس فيغاس وأفرغ ركن الحجّ من روحه ليصبح استثمارا سياحيا متوحّشا. وكيف لأحدهم أن يحترم حرمة الحجر وهو لا يكنّ أدنى احترام لحرمة البشر؟
ليس غريبا أن يشطح المغامسي، كباقي أفراد الجوقة، تناغما مع رقصة مولاه وهو الّذي اكتشف أخيرا حقيقة أنّ الذّبيح هو النّبي “إسرائيل” وليس النّبي إسماعيل (عليهما السّلام)، اكتشاف تصادف مع جهد مسعور للتطبيع مع كيان صهيوني مجرم غاصب للأرض ومغتصب للعرض. ولا نملك أمام هذه المصادفة إلا أن نقول سبحان الله. هكذا هم شيوخ السّلاطين، مهمّتهم تغييب الوعي، تمرير الجهل، الإلهاء، التدليس والتزييف، فما أبعد بن سلمان عن بلال وما أقربه لسيزيف، وما أحوجنا إلى أن ننفض ديننا ممّا أصابه من تحريف ليستعيد مقاصده ومشروعه بعد أن همّشوه وحوّلوه إلى أداة تطويع وتخويف وطقوس بالية أقرب إلى التّخاريف. بدت بشائر ربيع في الأفق فأبت خفافيش الظّلام إلاّ أن تحوّلها إلى خريف، لكن المؤكّد أنّ الأزهار ستينع والشمس ستشرق والعصافير ستطير، حتّى وإن لم يرد ذلك كهنة المعبد وسيزيف.