لغز السعودية، كيف نفهمه ؟ وما علاجه ؟
أبو يعرب المرزوقي
لغز السعودية محير من عدة وجوه.
فكيف لبلد له مقوما القوة أن يصبح أوهن من بيت العنكبوت ومطلق التبعية؟
فله مقوم القوة الرمزية والروحية لأن فيه الحرمين.
ومقوم القوة المادية والاقتصادية لأن فيه شروطهما، أعني الطاقة والحجم والموقع المكاني في جغرافية العالم والزماني في تاريخه.
وكيف لبلد له مئات ألاف المبتعثين من شبابه بجنسيه ومع ذلك يقوده إما عجائز من القرون الوسطى أو أقل شبابه تكوينا في كل ما تحتاجه الدول الحديثة بحيث يصبحون تابعين لغبي الإمارات ولغبي أمريكا ولخبثاء إسرائيل بحيث لم يبق من السيادة شيء يذكر فتحولت السعودية إلى دمية يتلاعب بها السفهاء؟
ولا يمكن أن يفسر هذا اللغز بالتدخل الغربي لأن تدخله غالبا ما يكون في حالة فقدان شعب من الشعوب هذين العاملين:
1. أي الفقر المادي.
2. والفقر الفكري.
لكن الثروة والتراث كلاهما متوفران وكان يمكن للسعودية أن تكون قائدة للأمة كلها ولا حاجة لحكامها أن يطلبوا مساعدة من أحد لعدم الحاجة.
كان يمكن لحكامها أن يبادروا لتجاوز التخلف -إذ الجزيرة كانت متخلفة لما نشأت الحركة التي تسمى بها الدولة السعودية- أن يقوموا بما قام به متداركي تخلف ألمانيا في القرن الثامن عشر عندما شرعت بروسيا في بناء قوة أوروبا الأعظم ومصدر قوتين أمريكا وروسيا إذ أسس النهوض العلمي والتقني منها.
فهل يمكن أن نفسر ما يحدث بكون الشباب المتعلم حديث العهد ولم يتمكن بعد من أداء دور مؤثر في مجريات الأحداث في بلاده بدليل ما حصل لخاشقجي ما يعني أنهم في مرحلة المعارضة بالقلب ولم يصلوا حتى للسان لأن ما نشر من أجله خاشقجي هو أنه وصل إلى مرحلة المعارضة باللسان والقلم؟
أم هل يمكن أن نفسر ذلك بعدم الحاجة إلى الثورة على الاستبداد والفساد القادرين على شراء الذمم بحيث إن “المكرمات” التي هي رشاوى تفسر السكوت العام والقبول بالظلم وفقدان الحريات الأساسية التي تجعل الإنسان كما يعرفه ابن خلدون “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”؟
أم هل يمكن أن نفسر ذلك بالشكل الأول الذي نشأت به الدولة السعودية وهو الشكل الفرعوني الذي يتقاسم فيه السلطان الفعلي بين ممثلين عن الاستبداد التربوي والروحي لرجال الدين والاستبداد السياسي والمادي لرجال الحكم بحيث إن الأول يتحول إلى مضف للشرعية على الثاني لـ”إفساد معاني الإنسانية” (ابن خلدون)؟
ذلك أن سيطرة المؤسسة الدينية التي هي كنسية في النظام السياسي السني مخالفة مطلقة لنظرية الدولة في الإسلام جعلها أشبه بنقيض التشيع هو يجعل الحكم تابعا للدين وهم يجعلون الدين تابعا للحكم وكلاهما أدخل الوساطة الروحية والوصاية السياسية على المؤمنين بدين ينفيهما نفيا قاطعا؟
ولماذا لا يكون الأمر أسوأ من أن يكون التفسير بواحد من كل ما افترضت بل بها جميعا فيكون اللغز ليس في واحد منها بل في اجتماعها معا في مركز الإسلام وقلبه بحيث إن المستهدف ليس السعودية بل قلب الأمة حتى يحال دونها واستئناف دورها في التاريخ بعد أن استعاد الإسلام وهجه وعنفوانه؟
فالعرب هم منطلق الثورة الإسلامية في بداية تأسيس دولتها (الخلافة الأولى) منذ أكثر من 14 قرنا وتم تأسيس الدولة مع نهاية الدولة الأموية والجزيرة التركية هي غايتها (الخلافة الأخيرة) منذ قرن فإن ما بين هذين الشعبين اللذين دخلوا تاريخ العالم الكوني بفضل الاسلام مستهدف دورهما فيه وبه.
ما يجعلني أميل إلى هذا التفسير هو السر في معاداة حكام السعودية لتركيا؟ هل يتصورون تركيا وصل الغباء بقياداتها أنها تنوي استعادة الخلافة بشكلها الذي لم يعد مناسبا للعصر؟
هل أوروبا لما تسالمت وبدأت في استعادة سر القوة أي الوحدة هل عادت إلى القيصرية-الكنسية التي كانت عليها في القرون الوسطى؟
أم هي طورت مفهوم الوحدة الأوروبية؟
ألا يتدبرون التاريخ؟
لماذا لا يطور العرب والاتراك فيكونوا مثل ألمانيا وفرنسا نواة صلبة لتحقيق شروط القوة للأمة بما يناسب العصر دون أن يكون أي منهما مسيطرا على الثاني بل متعاونان من أجل تحرير المسلمين واستئناف دورهم في تاريخ المعمورة؟
هل يوجد سبب يجعل السعودية تخشى تركيا وهي أقوى منها ماديا وروحيا إذا علمت كيف تستفيد مما حباها الله به من حيازة الحرمين وأكثر من مال قارون؟ أما كان بوسعها أن تستعيد هي دور العرب في تاريخ الإسلام والعالم وأن تكون تركيا عونا لها بدلا من اعتبارها هي العدو والتحالف مع أعداء الأمة والإسلام.
فلينظروا ما تفعله إيران من حولهم لتستعيد ما تعتبره مجدها المتقدم على الإسلام بتخريب الإسلام وضربه بعكس قيمه إلى ما ينافيها تماما. فهو حرر البشرية من الوساطة في التربية فأعادوها ومن الوصاية في الحكم فأسسوا عليها حكمهم حتى يستأنفوا دور الكسروية بالوساطة الروحية والوصاية السياسية لاستعباد الإنسان.
ألا يرونها قد قضت على مركز الخلافتين الوسطيين بين الأولى والأخيرة أي العراق وسوريا وأسست لخط يقاطع الخط الذي كان من المفروض أن يستعيد مجد الأمة أعني الخط المعامد لهذا الخط وصلا بين الخلافة الأولى والأخيرة منعا لتحالفهما للعلم بأنهما يمثلان مركز الانبعاث الإسلامي الممكن؟
وهل قضى على المركزين الأوسطين العراق وسوريا غير إيران وإسرائيل صاحبي الثأر من العرب الذين أسسوا دولة الإسلام والأتراك الذين حموها إلى بداية القرن العشرين خوفا من عودتهما لهذا الدور فيحولا دون عدوي الإسلام هذين من استرداد امبراطوريتي كسرى وداود؟ ألا يعقلون؟
عندما وضعت النموذج الهندسي للخطين المتعامدين خط يصل بين عاصمتي الخلافة الثانية والثالثة وخط يصل بين عاصمتي الخلافة الأول والأخير لم يكن ذلك عبثا بل كان لبيان طبيعة الصراع المرسوم على الأرض للوصول إلى ذراعي الساعين لمنع عودة الإسلام للتاريخ: إيران وإسرائيل محركين مباشرين للمعركة.
وإذا بالعرب بسبب أمية قياداتها تنقسم إلى عملاء إيران وعملاء إسرائيل وهما بدورهما أداتان للقوتين الاكبرين حول الإقليم ودار الإسلام واللتين تريدان أمرين:
1. منع عودة الإسلام للتاريخ عودة تجعل حضارته تسود من جديد بقيمه التي تحتاج إليها الإنسانية.
2. الحاجة إلى ما في داره وإلى موقعها في جغرافية العالم مما لا بد منه لدورهما في السيطرة عليه.
لا أريد أن أطيل الكلام في الموضوع لأني على يقين أن شباب السعودية المتعلم ليس غافلا عن كل ما حاولت الكلام عليه.
وأعتقد حقا أن خاشقجي كان لسانهم الفعلي وأنهم ما يزالون في مرحلة الرفض بالقلب وأنهم لن يتأخروا في الوصول إلى الرفض باللسان وآمل ألا يضطروا فيصلوا إلى اليد.
فهم ليسوا دون شباب البلاد العربية الذين تجاوزوا القلب واللسان واضطروا إلى اليد. وكل من يتوهم أن الثورة هزمت لا يفهم التاريخ. الثورة لم تهزم. ولو هزمت فعلا لما ارتمى بعض الحكام في حجر إيران وبعضهم الآخر في حجر إسرائيل وذلك يزيد الثورة المضادة ضعفا لا قوة إذ الشعب يزداد وعيا.
وإذن فأنا متفائل: فشل السيسي وفشل بشار وفشل حفتر وفشل زنجي الإمارات وصاحب المنشار وقبلهم من أسقطتهم الثورة أمر لا مرد له. ولن يجديهم نفعا التحالف مع إيران أو مع إسرائيل لأن هذين هما بدورهما لم يكونا كافيين وإلا لاستغنيا عن روسيا وأمريكا. وروسيا أوهن من بيت العنكبوت مثلها أمريكا.
الإسلام عائد. ولا مرد لوعد الله. فالله وعد الأمة بأن تكون شاهدة على العالمين. ولا يشهد المستضعف وإذن فالأمة ستستعيد عزتها بالإسلام وستسود العالم من جديد مهما تآمر عليها أعداء الإسلام من الداخل والخارج. ذلك أمر لا يخامرني أدنى شك حوله إلى في شيء واحد هو متى وهل سأراه في حياتي.